طه عبد العليم
حين سقط تحالف الفوضى والجشع والفساد
قبل ثمانى سنوات ضرب زلزال مدمر أساسات السوق الحرة، التى روج من يقدسونها أنها نموذج يحتذى للاستقرار والازدهار، وأنها عصية على الأزمات والإخفاقات!! أقصد زلزال الأزمة المالية والاقتصادية العالمية فى أغسطس 2008، الذى كانت أمريكا مركزه، والذى أحدثت تداعياته انهيارا ماليا واقتصاديا ودمارا شاملا لم يعرفه العالم من قبل. وكان الثمن أفدح والمعاناة أشد فى البلدان، التى تبنت- طوعا أو قسرا- هذا النموذج، وأهدرت الأسبقية الواجبة لتنمية الاقتصاد الحقيقى، الصناعى والزراعى. وبهدف التعلم الايجابى من دروس الأزمة، أكتفى بايجاز ما سجله اقتصاديون ومفكرون وسياسيون أمريكيون فى نقد تحالف الأصولية والجشع والفساد الذى فجر الأزمة.
والدرس الأول، أن سبب الأزمة الراهنة هو تجاهل الدروس المستفادة من أزمة الكساد العظيم، كما سجل روبرت ماك إلفين أستاذ التاريخ الأمريكى فى جريدة واشنطن بوست 28 سبتمبر 2008. فانهيار سوق العقارات الوهمية فى أزمة 2008 كان يمكن التنبؤ به؛ تماما مثلما كان يمكن التنبؤ بانهيار المضاربة على صعود البورصة فى أزمة 1929. وكان السبب الرئيسى وراء الإخفاق فى قطع الطريق على الأزمة فى الحالتين: أن القادة الاقتصاديين والسياسيين الأصوليين كانوا فى موقع المسئولية، فتمسكوا بإيمانهم بآلهة السوق!!. ويضيف إلفين، لقد تعلمنا مما حدث فى الكساد العظيم أن أكثر المخاطر بروزًا للرأسمالية هو تركز الدخل فى القمة بما يضعف أساس عمل اقتصاد يستند إلى المستهلك!! فمع ارتفاع الأرباح وانخفاض الضرائب يعانى الاقتصاد انسداد الشرايين ومن ثم الأزمة القلبية، حين يجد المستهلكون أنفسهم مدينين بأكثر مما يمكنهم سداده فتتدهور المبيعات، وتتساقط البنوك الحائزة لقروض رديئة، وهو ما جرى فى 1929 وفى 2008!.
والدرس الثانى، أن فلسفة الإدارة الجمهورية تلخصت فى أن القطاع الخاص جيد والقطاع العام سيىء، فصعبت عليها مواجهة ضرورة ملكية الدولة الجزئية لقطاع المال، كما أوضح بول كروجمان، الحائز على جائزة نوبل فى الاقتصاد فى نيويورك تايمز بتاريخ 13 أكتوبر 2008. ونقرأ لجوزيف ستيجليتز، الحائز بدوره على جائزة نوبل فى الاقتصاد، فى مقاله العودة المظفرة لكينز، أن النظرية الاقتصادية قد شرحت منذ أمد بعيد أسباب عجز الأسواق غير المقيدة عن تصحيح نفسها بنفسها، والحاجة للتنظيم ودور قوى على الحكومة أن تلعبه فى إدارة الاقتصاد. ثم نقرأ لهارولد ميرسون فى الواشنطن بوست فى 17 أكتوبر 2008 يقول: إن البنوك الاستثمارية ليست وحدها ما يسقط فى المجزرة الأخيرة، وإنما فكرة الرأسمالية غير المقيدة وسياسة عدم تدخل الدولة فى الاقتصاد، وأن أصولية السوق قد فرضت تكاليف هائلة على البلدان النامية، ولم تأت لحظة التنوير إلا حين بدأت تفرض التكاليف على أمريكا!.
والدرس الثالث، أوجزه المفكر الأمريكى أنتونى فيولا فى واشنطن بوست 10 أكتوبر 2008 تحت عنوان نهاية الرأسمالية الأمريكية، بقوله إن الأزمة المالية الراهنة توجه الاتهام الى النمط الأمريكى للرأسمالية. وقد قادت أمريكا حربا منذ الثمانينيات لإجبار معظم دول العالم، وخاصة الدول النامية، على إبعاد اليد الثقيلة للحكومة عن قطاعات المال والصناعة!! وأضاف فيولا إن فكرة ملكية الدولة فى قطاع المال وتدخلها القوى فى السوق لمواجهة الأزمة يسلب من واشنطن السلطة الأخلاقية للتبشير برأسمالية دعه يعمل.
والدرس الرابع، أوجزه كبير المفاوضين الديمقراطيين فى بحث خطة مواجهة الأزمة- باعلانه أن القطاع الخاص وضعنا فى هذا المأزق، وبات على الحكومة أن تخرجنا منه! وحمّل زعيم الأغلبية الديمقراطية فى مجلس الشيوخ ادارة الرئيس بوش المسئولية عن الأزمة باتباعها سياسات اقتصادية بلا ضوابط او رقابة! وسجل أوباما مرشح الرئاسة الديمقراطى آنذاك، بقوله إنه يحمّل مسئولية الأزمة إلى الفلسفة الاقتصادية التى ينتمى إليها منافسه الجمهورى، وتعتبر أن كل أشكال الرقابة غير ضرورية ولا حكيمة، وتدفع المسئولين لدفن رءوسهم فى الرمال وانتظار تحول المصاعب إلى كوارث.
وخامس الدروس، أن جشع الرأسماليين والمديرين لمضاعفة أرباحهم وحوافزهم من المقامرة بتسويق مشتقات أوراق الرهن العقارى أدى الى نزع فتيل قنبلة الدمار المالى الشامل بفعل فاعل! وكان أشهر قصص الجريمة استيلاء رجل توظيف الأموال الأمريكى مادوف على خمسين مليار دولار بالاحتيال على ضحاياه المتهلفين الى الثراء الخاطف! ومنهم البنوك الأمريكية الكبرى عالمية النشاط، التى باعت أوراقا مالية بقيم تفوق بكثير قيمتها الفعلية! وشركات التصنيف الأمريكية ذائعة الصيت، التى قدمت شهادات الجدارة الائتمانية المزيفة للأوراق المالية المغشوشة مقابل رشوة معلومة! وشاركت فى الجريمة الإدارة الجمهورية بتبنيها سياسات وتشريعات فوضى السوق؛ الحرة من التنظيم والرقابة! واقتصاديون وفروا التبرير النظرى لنهج العداء لتدخل الدولة والقطاع العام وتنظيم السوق! وماليون ابتكروا أوراقا مالية يعاد بيعها مرارا وتكرارا! وكون مفجرو الأزمة جماعات مصالح وضغط وَأَدَت دعوة كلينتون الى إعادة تصنيع أمريكا، فكان الحصاد تداعى الصناعة الأمريكية فى إعصار الأزمة!.
ومع الأزمة سقطت نظرية اقتصاد التنقيط، التى تزعم بأن تركيز الثروة لدى الأغنياء سيفيد الفقراء حين تتساقط عليهم ثمار النمو، كانت أساس أيديولوجية خفض الانفاق العام على الصحة والغذاء والتعليم وحماية البيئة، حيث تفاقم سوء توزيع الثروة والدخل فى أمريكا وغيرها من البلدان التى تبنت هذه النظرية المخادعة والخائبة.