الأهرام
د. نصر محمد عارف
أردوغان.. والجسر .. والتاريخ
مكان وزمان واسم إنسان، ثلاثة عناصر تكشف عن مخططات أردوغان، وعن حقيقة إستراتيجية حزبه تجاه العربان، وعن الفارق الضخم بين ما يقال، وما يتم التخطيط له بعمق، وإصرار ونفس طويل.

فى يوم ٢٤ أغسطس ٢٠١٦ دخلت القوات التركية منطقة جرابلس شمالى سوريا، مصحوبة ببعض عناصر الجيش السورى الحر؛ لتسويغ عملية غزو تركى للأراضى السورية تحت حجة محاربة داعش والقوات الانفصالية الكردية، وفى يوم ٢٤ أغسطس ١٥١٦ دخلت قوات السلطان العثمانى سليم الأول من نفس المكان متوجهة لقتال جيش المماليك فى شمالى حلب.

تاريخان وشخصان ومنطقة واحدة، خمسمائة سنة تفصل التاريخين، ولكن من الواضح أن الهدف واحد، وأن السلطان أردوغان يريد أن يحتفل بمرور خمسمائة سنة على توسع الدولة العثمانية جنوبا، وتحولها إلى إمبراطورية بعد أن ضمت العالم العربى المعروف آنذاك تحت سلطانها…هل هى صدفة؟ أم أنه تخطيط ورؤية إستراتيجية؟…ولماذا التوافق الدقيق فى التواريخ والأماكن؟…قد يقول بعض غلمان أردوغان من العربان أن هذا كله يندرج ضمن نظرية المؤامرة، وأن كل هذه تحركات فرضتها الظروف، ولا علاقة لها بمرور خمسمائة عام على احتلال العثمانيين لبلاد العرب، وإخضاعهم ونهب ثرواتهم لما يزيد على ٤٠٠ سنة تالية.

فى يوم ٢٦ أغسطس ٢٠١٦ احتفل الرئيس أردوغان، ومعه كل الدولة التركية، بافتتاح جسر السلطان سليم الأول الذى يعبر مضيق البسفور، ويربط تركيا الآسيوية بتركيا الأوروبية، وقد أطلق أردوغان ومعه وسائل الإعلام التركية على الجسر اسم: ياوز سليم، وهو الاسم التاريخى للسلطان سليم الأول، الذى كان يعرف بالتركية باسم: «غازى ياوز سلطان سليم خان أول» ، وكلمة «ياوز» تعنى بالتركية قاسى القلب، والمتوحش والمفترس، فلم يختر أردوغان من الألقاب المتعددة للسلطان سليم إلا «ياوز».

وفى ٢٦ أغسطس ١٥١٦ انتصر السلطان سليم الأول على جيش المماليك فى موقعة مرج دابق شمالى حلب، وسقطت القاهرة بعد ذلك مباشرة، وقبلها سقطت الشام والعراق، وبعدها الحجاز وشمال إفريقيا حتى حدود المغرب الأقصى، فى ٢٦ أغسطس ١٥١٦ حدثت الخيانة وسلم محتسب دولة المماليك الزينى بركات ثروة مصر، وذهب مصر للسلطان سليم الأول، وغدر بقنصوه الغوري، ومات الأخير تحت سنابك الخيل .والفارق الوحيد أن الزينى بركات وجماعته لم يطلقوا على أنفسهم الجيش الحر.

فهل هذه أيضا صدفة؟…طبقا لتصريحات وسائل الإعلام التركية، والقيادة التركية فإن إنجاز هذا الجسر التاريخى الكبير، تم فى وقت قياسى ليتم افتتاحه فى هذا التوقيت بالتحديد، فاختيار تاريخ افتتاح الجسر تم تحديده عند التفكير فى بناء الجسر…ومن المؤكد إن اختيار التاريخ، واختيار اسم ذلك السلطان بالتحديد له دلالة معينة فى خطة أردوغان وحزبه، وأن الأمر ليس صدفة، ولم ولن يكون.

ما سمعته من الدكتور أحمد داوود أوغلو زميلنا فى التخصص، وسمعه زملاء آخرون ما زالوا أحياءً منذ أكثر من ١٥ سنة؛ أن هدف حزب العدالة والتنمية إعادة الخلافة سنة ٢٠٢٤ فى صورة حديثة، وذلك بمناسبة مرور مائة عام على سقوطها على يد مصطفى كمال أتاتورك، الذى تمثل صورته خلف أردوغان نفس صورة القرون فوق رأس محجوب عبدالدايم فى فيلم القاهرة ٣٠ … هو هدف حقيقي، أكده أردوغان فى الأيام القليلة الماضية، من خلال إحيائه بطريقة عملية فجة لذكرى احتلال العثمانيين للعالم العربي؛ الذى كانت تدير معظمه دولة المماليك فى مصر آنذاك.

إذا كانت هذه هى أهداف حزب أردوغان، التى ينفذها فى أرض الواقع، ولو بصورة رمزية؛ فأين هى أهداف الدول العربية؛ وفى مقدمتها مصر التى كانت كل حروب «غازى ياوز سلطان سليم خان أول» ضدها، وهو الذى أسقط عاصمتها، وقتل أحد سلاطينها تحت حوافر خيله، وعلق الآخر مشنوقا على أحد أبواب القاهرة: باب زويلة؟ أين موقف مصر من كل هذا؟ وأين موقف كل العرب؟ وإلى متى تظل سوريا فريسة لأطماع أردوغان

لقد تحولت سوريا كما العراق إلى خناجر فى الجسد العربى ينفذ منها أصحاب الثارات التاريخية منذ موقعة القادسية، ويستخدمها أصحاب المطامع التاريخية منذ مرج دابق، أصبحت سوريا والعراق ساحات لتفكيك الجسد العربى ثم انضم إليهما اليمن السعيد، هنا لابد أن تتحرك مصر المثقلة برغيف الخبز، وأسعار تذاكر المواصلات، ومؤامرات كبار التجار الفاسدين من سوق العملة إلى سوق القمح، لابد أن تتحرك مصر لأنها الوحيدة التى لم تفقد أوراقها التاريخية فى أى من الدول الثلاث، ولأنها الوحيد القادرة والمؤهلة للقيام بدور لوضع حد لحالة الانهيار التى تجتاح العالم العربي، ولأنها الوحيدة التى تستطيع أن تقدم حلولاً عملية.

ولكن، لن تتحرك مصر قبل أن تستجمع طاقات أبنائها فى الداخل والخارج لبناء قدرات عقلية وفكرية وسياسية تستطيع أن تضع الخطط وتبنى الاستراتيجيات وتقدم البدائل، ولن يحدث هذا إلا إذا اقتنعت القيادة أن حكم مصر لن ينجح إلا بتجنيد كل عقول مصر لخدمة مصر والعرب، ثم الانفتاح على كل الكفاءات العربية القادرة على العطاء، فمصر هى بيت العرب، لابد أن تتحرك مصر بأفق عربى قبل أن يأتيها مرة أخرى «غازى ياوز سلطان سليم خان أول».
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف