جمال سلطان
الأزهر ووزير الثقافة وصناعة الفوضى الدينية
الهجوم المفاجئ لوزير الثقافة حلمي النمنم على مؤسسة الأزهر واتهام التعليم الأزهري بأنه سبب التطرف ومطالبته بتقليصه والتقليل منه ليس جديدا في مصر ، وإنما الجديد أن يصدر بهذا الوضوح و"الفجاجة" من وزير بالحكومة المصرية ، أن يصدر من "الدولة" ذاتها التي يمثل الأزهر نفسه ركنها الديني الرسمي الوحيد الذي تستند إليه داخل مصر وخارجها ، وقديما كان الصدام يتكرر بين الثقافة والأزهر ، خاصة أيام تولي فاروق حسني ، صاحب الحظيرة الشهيرة للمثقفين ، للوزارة ، لكن فاروق كان أكثر تحفظا في الحديث عن الأزهر ، كانت المسألة نزاعات فرعية في الولاية على موضوعات تتعلق بالرقابة على مصنفات فنية ونحو ذلك ، أما ما فعله "الصديق" حلمي النمنم فهو جرأة غير معهودة ، ومع احترامي الكامل للنمنم إلا أن مسألة انتقاد الأزهر بتلك الطريقة وهذا الوضوح وفي تلك الأوقات ، هي مسألة أكبر من قدرات الوزير وأعلى من السقف الممكن له في الأحوال العادية ، ولذلك أتصور أن تصريحات النمنم هي رسالة من جهة ما في الدولة ، أو على الأقل هي انعكاس لأجواء عايشها النمنم في مداولات أعلى هرم السلطة في مصر . الحكومة المصرية والنظام السياسي بكامله يعرف جيدا أن أحد مصادر الإزعاج العالمي الآن هي التنظيمات الإرهابية التي تتمسح في الإسلام أو تنتسب إليه ، وأن اللغة المشتركة الآن في العواصم الغربية الكبرى هي مكافحة الإرهاب ، ماديا وفكريا ، والسلطة في العالم الثالث ـ بالحاسة السابعة ـ تدرك أن أحد أهم مفاتيح تقربها من الدوائر الغربية هو إظهار قدرتها ودورها في مكافحة الإرهاب والتصدي له ، أمنيا وفكريا ودينيا ، ودائما تحرص تلك السلطات على أن تبدو في صورة صاحبة الخطوة الأكثر تقدما في هذا المضمار ، وفي مصر تحديدا ، حيث الأزهر المؤسسة الدينية الأهم والأكثر حضورا في العالم وأكثر هيبة وعراقة ، يحاول البعض أن يستبقه بخطوة أو خطوات ليبدو كأنه أكثر حرصا على مكافحة التطرف الديني المؤسس للإرهاب ، وهذا "البعض" يتصور أن الأزهر هو "الحيطة المايلة" التي يستبيحها في كل مرة يريد أن يتزلف للعواصم الغربية أو "يرمي بياضه" ، فيعلن انتقاده "المبطن" للأزهر على تكاسله أو تردده في مكافحة التطرف أو يأخذ عليه ضعف خطواته وجهوده في هذا المجال ، ويترك لمثل "حلمي النمنم" المساحة العلنية لكي يقول ذلك بشكل فج وصريح ، لتيم تسويق صورة النظام الذي يبذل جهدا ضخما ومخلصا لإقناع المؤسسة الدينية بدور أهم وأكبر لمواجهة التطرف ، وأن "القيادة" جادة ، ولكنها تعاني من بطء المؤسسات وضعف دورها . الحسابات الصغيرة وقصيرة النظر تضر بمصالح الوطن على المدى البعيد ، ومحاولات ابتزاز الأزهر وإهانته وإظهاره بصورة سلبية أمام العالم ، أخطر كثيرا من أن يتاجر به أحدهم لتسويق نفسه سياسيا أمام العالم ، فمصلحة الوطن في مؤسسة دينية قوية وذات هيبة ومصداقية تكون مرجعية حافظة للوسطية والاعتدال ، وما يحدث الآن هو عكس ذلك ، نحن نفرط في أهم وأخطر مصادر "القوة الناعمة" لمصر في العالم الخارجي ، ويكفي أن تنظر لصور الاستقبالات الشعبية والرسمية لشيخ الأزهر في سفراته في أفريقيا وآسيا ، لكي تعرف قدر الأزهر وأن قدر مصر من قدر الأزهر في كثير من الأحيان ، فمن يهين الأزهر هو يهين مصر ، ومن يضعف الأزهر يضعف مصر ، وهذا ما نأخذه على السلطة كما نأخذه على أي حزب إسلامي أو مدني يستخف بدور الأزهر أو يهينه عند أي خلاف سياسي ، هذا خط أحمر . نعاتب الأزهر ونراجعه ، فهو في النهاية جهود بشرية تصيب وتخطي ، وهو كيان حي على مدار ألف عام يضعف ويقوى ويمرض ويصح ، ولكن ، كما للقضاء آليات للمحاسبة بعيدا عن التشهير ، لأن إسقاط هيبة القضاء إسقاط لهيبة الدولة نفسها وتأسيس للفوضى ، فكذلك ينبغي أن تكون هناك آليات أكثر خصوصية في انتقاد الأزهر أو التحرش به ، ويضمن ذلك القانون ، لأن صناعة الفوضى الدينية أخطر من صناعة أي فوضى أخرى ، وينبغي أن يستشعر الرؤساء والوزراء والقيادات الرفيعة في الدولة المسئولية بشكل أكثر حساسية في هذه المسألة ، بدلا من أن يكونوا ـ بسلوكهم أو تصريحاتهم ـ محرضين على استباحة الأزهر وإهانته وهدمه .