محمد بغدادى
غول الفساد.. والمساءلة القانونية!
فى نهاية تسعينيات القرن الماضى كنا مجموعة من الكتاب والصحفيين والمثقفين والفنانين.. ورجال صناعة الأدوية.. والمواد الغذائية.. على متن طائرة خاصة.. فى طريقنا إلى بغداد.. لتقديم المعونات الطبية والغذائية.. لدعم ومؤازرة أطفال العراق المحاصرين.. بلا أدوية ولا غذاء.. وكان معنا على الطائرة الفنانون: سعيد صالح.. سهير البابلى.. محمد صبحى.. عبدالعزيز مخيون.. رغدة..وعدد كبير من الشخصيات العامة.. وكان رئيس إحدى الصحف الخاصة.. يتحدث بصوت عالٍ ــ لفت انتباه الجميع ــ إلى رئيس الشركة القابضة لصناعة السكر.. وكان يتفاخر بأنه شن حملة صحفية ضارية على أحد حيتان استيراد السكر من الخارج من المستثمرين العرب المقيمين بالقاهرة.. ومصانعه تقع بالمنطقة الصناعية بمدينة العاشر من رمضان.. وزيادة فى الإثارة والتشويق قال رئيس التحرير.. لقد جاءنى هذا المستثمر ووضع على مكتبي مليون جنيه كمقدم حملة إعلانية فى جريدتى مقابل وقف الحملة الضارية التى كنت أشنها عليه.. ولكنى رفضت تماما وقلت له أنا لا يمكن أن أتخلى عن (مبادئى) ولن أتوقف عن شن حملتى ضد الفساد فى عملية استيراد السكر من الخارج.. مما يؤدى لكساد المنتج المحلى من السكر المصرى.. ورفضت تماما قبول المليون جنيه.. ونظر إلى رئيس الشركة القابضة للسكر مستشهدا به.. قائلا: حصل ولا.. لأ يا سعادة البيه؟.. وكانت المفاجأة الكبرى.. أن سعادة البيه رئيس الشركة القابضة للسكر نظر إليه مبتسما بدهاء: هو صحيح أنت رفضت قبول المليون جنيه! لكن أخذت مننا بدلا منها خمسة ملايين من الشركة القابضة مقابل حملة إعلانية أخرى! وسكت رئيس التحرير بعدها حتى نهاية الرحلة وهبوط الطائرة فى مطار بغداد! وبالطبع اكتشفت يومها أن عددا كبيرا من المثقفين والمبدعين والكتاب و(بعض) الفنانين الشرفاء كنا نعتقد أننا فى طريقنا لدعم أطفال العراق.. ولكننى اكتشفت خلال تلك الرحلة أننا جميعا أدوات وستار وطنى لرحلات البيزنس للتجارة وتصدير الأدوية والمواد الغذائية ومواد البناء.. ونحن ليس لنا فى هذه الرحلة لا ناقة ولا جمل.. سوى التعاطف الإنسانى والحقيقى مع أطفال العراق المحاصرين.. وبعدها تلقيت العديد من الدعوات لزيارة العراق ولكنى رفض تماما بعد الذى سمعته من رئيس التحرير.. ورأيته منه هناك فى بغداد. أقول قولى هذا بمناسبة الحملة الضارية التى تم شنها باحتراف ومهنية ضد وزير التموين خالد حنفي.. وكأن الحكومة ومجلس النواب.. وأجهزة الدولة الرقابية.. استيقظت فجأة من سباتهاالعميق واكتشفت بالصدفة أن وزير التموين يقيم فى فندق سميراميس.. وإنهم اكتشفوا فجأة أنه متواطئ فى عملية فساد توريد القمح.. وبطاقات صرف الخبز بالنقاط.. وكأن هذا الفساد ظهر فجأة.. أم أن غول الفساد الأكبر اكتشف أن النار ستطوله هو شخصيا.. فقرر أن يضحى بالسيد (الجنين) أقصد الوزير.. للحفاظ على حياة (الأم) أقصد غول الفساد الأعظم.. لقد ذكرنى حادث الوزير خالد حنفى بواقعة رئيس التحرير الذى رفض المليون جنيه.. ولكنه قبل الحملة ذات الملايين الخمسة.. ورفض أن يتخلى عن (مبادئه!). فإذا كان لدينا حكومة رشيدة.. ومجلس نواب يبحث عن مصالح الشعب الحقيقية.. ولديه النية الصادقة.. والإرادة السياسية لمحاربة الفساد والقضاء عليه.. فعليه أن يفتح ملفات الفساد على مصاريعها ليس فى توريد القمح فقط.. ولكن فى كل مؤسسات الدولة التى تعوم على بحر من الفساد الكامن فى كل ركن فيها منذ أربعين عاما.. فإما أن وزير التموين د.خالد حنفى مدان فيجب تقديم المستندات الدالة على ذلك تحقيق فيها.. وإما أنه كبش فداء للتستر على غول الفساد الأكبر.. الذى لا يطاله قانون.. ولا رقابة.. وهذا أمر لا يجب السكوت عليه.. بل متابعته وتعريته وكشفه عبر الأجهزة القضائية والرقابية المعنية.. فكفانا تمويه.. وتدليس.. وتشويه.. وتلويح بما يقال وما لا يقال.. فقد ورمنا.. وهرمنا.. فمازالت ملفات الفساد مغلقة.. وحماية المفسدين مكفولة لكل فاسد.. فحرية الفساد مطلقة لإهدار ونهب المال العام بشكل منظم.. ولا ينقصنا سوى صدق النية والإرادة السياسية لاغتيال غول الفساد.. وإلا فالغول سيأكلنا جميعا وسنندم جميعا فى وقت لن يفيدنا فيه الندم.. «فيا أهل مدينتا.. انتفضوا.. أو موتوا.. رعب أكثر من هذا سوف يجىء! -