القصص والتعليقات والبرامج والحوارات والتصريحات التى ملأت فضاء الإعلام، حول صورة الزميلة مراسلة قناة «أون تى فى» التى اضطرت إلى اصطحاب طفلها إلى موقع عملها، وحمله فى أثناء أداء عملها، كانت لافتة فى حد ذاتها من الصورة التى التقطها لها شاب، مصحوبة بتعليقات قيل إنه اعتذر عنها تاليا.
لا أعرف إن كان لا بد من الحكم على هذا المشهد من منظور مهنى ضيق، أم عبر أفق إنسانى أوسع، أم اعتباره شيئا عاديا جدا يتكرر كل يوم، مع أمهات كثر تدفعهن ظروف العمل والحياة إلى اصطحاب أطفالهن لأماكن أعمالهن، وآباء أيضا يتعرضون لمثل هذه الظروف بدرجة أقل. المؤكد أننى أتضامن مع كل دعوة لدعم كل عاملة أو عامل يرعى أطفالا، وأتمنى تسهيل الأمر عبر حضانات ملحقة بأماكن العمل بمواعيد مرنة ومتماشية مع طبيعة العمل الصحفى والإعلامى، وسبق أن طالبت قبل 8 سنوات فى مقال بعنوان «الحضانة أولا» منشور بـ«المصرى اليوم» بتبنى نقابة الصحفيين مثل هذا المشروع، لخدمة عدد كبير من الصحفيين والصحفيات، الذين تقع مؤسساتهم فى محيط مبنى نقابة الصحفيين، لأن تلك قضية نقابية فى الأساس.
مع ظهور الصورة تلك، وما أحاط بها من رد فعل واسع وتضامن مذهل وحملات ضغط على القناة حتى لا تعاقب مراسلتها أو «ترفدها»، رغم أن القناة ذاتها للغرابة لم تقل إنها تنوى ذلك من الأصل، حتى وصل الأمر إلى دخول الرئاسة على الخط بكل نفوذها، دون أن نعرف ما يمكن أن تنتجه هذه الطاقة المبذولة فى تضامن مع زميلة لا تتعرض لتهديد، والانطلاق من قصتها لطرح كل قضايا المرأة، ومع اعتبار الجمهور العريض جدا حتى من النساء المسألة عادية جدا ومتكررة، وموجودة فى كل بيت، تفقد القضايا التى تنطلق من هذا الموقف وتطرح للنقاش جديتها والاهتمام بها. بالتوازى مع ذلك كانت امرأة أخرى عاملة ومعيلة، تنتظر قدرا محدودا من هذا التضامن فى حياتها، وكثيرا من هذا التضامن بعد موتها فلا تجده، وتتمنى أن يكون لها صوت أو أصدقاء أو شباب وشابات متحمسات لقضيتها ومعاناتها يمكن توصيل قصتها إلى الرئيس والمحافظ ورئيس المدينة وكل من فى يده أمر. الأرجح أنك سمعت عن زاهية جمعة، امرأة تجاوزت السابعة والخمسين من العمر، وظلت مضطرة إلى العمل فى نفايات القمامة، تتولى فرز ما فيها لتبيع حصيلتها من «البلاستيك والصفيح» يوميا لتتحصل على مصاريف زوج عجوز مقعد وابنة مطلقة بلا عائل مع أربعة أطفال، يعيشون جميعا فى غرفتين بالإيجار فى منزل متهالك بمركز إطسا، لكن قنبلة مزروعة فى «علبة كانز» انفجرت فيها وشطرتها إلى نصفين. لم تعانِ زاهية فقط من أزمة «حضانة»، لكن كل أزمات المواطن المصرى وفى القلب منه المرأة كانت تعبر عنها، من غياب شبكات الحماية الاجتماعية التى تضطر عاملة «أرزقية» إلى العمل فى القمامة حتى قاربت على الستين، ومشكلة السكن الصحى، ودعم المرأة المعيلة، والتنمية والبطالة، وأخيرا قضايا الأمن والإرهاب، التى دفعت فاتورتها عمرها ومستقبل أسرتها، رغم أنها لم تكن طرفا فى خصومة ولا صراع على سلطة ولا انحياز لأى من المتصارعين، كانت فقط تغدو مع كل فجر بحثا عن رزقها فى كومة قمامة لأعوام متتاليات، حتى عادت فى آخرها بالموت الذى شطرها إلى نصفين. لا وجه للمقارنة طبعا بين الاهتمام الإعلامى والرسمى بامرأة تناضل بالفعل للحفاظ على طفلها بالتوازى مع عملها، وامرأة كانت تناضل وتكافح الحياة كلها وراحت ضحية لإرهاب أسود، ولا وجه للمقارنة بين طاقة التضامن التى صاحبت مراسلة «أون تى فى»، وما حصلت عليه زاهية حية أو ميتة.
ذهبتُ طفلا مع أمى إلى مكان عملها، وشاهدت زوجتى تقطع بأطفالنا مئات الكيلومترات، واصطحبت أطفالى إلى مقار عملى كثيرا، حين كان لا حل إلا ذلك، وشاهدت زميلاتى يفعلن ولعبت مع أطفالهن فى أماكن عملنا، لكن عندما يكون مطلوبا لقضية أن تصل إلى الرئاسة، وأن تجد تضامنا، فقضية زاهية أولوية، ليس لجلب مساعدات لعائلتها وتكريم امرأة صابرة مناضلة بعد موتها فحسب، وإنما لمدّ اليد لملايين الزاهيات الراجيات المناضلات اللاتى لا يستخدمن «فيسبوك».