تلف الحاجة روحية ورق محشي الكرنب فتصنع منه أصابعَ صغيرة، تضعها بشكل جمالي يجعل الحلة أشبه بلوحة فنية. مشكلة الحاجة روحية أنها لا تريد أن تكف عن لف المحشي، الذي تبيعه للبيت الذي تخدم فيه، والذي تشاجرت أكثر من مرة مع أبنائها أصحاب العمارات، ومعارض السيارات، وورش الميكانيكا بسببه، فهي لن تقبل أبداً من أبنائها أن يصرفوا عليها، ولا أن تُحوَج لهم، ما دامت فيها الصحة. تعيش الحاجة روحية وحيدة، في مساكن شعبية تحمل اسم جمال عبد الناصر، الذي بناها لعمال السكك الحديد. ورغم أن الحاج مصطفي، زوجها الراحل، لم يكن من عمال السكك الحديد، فقد كانت الشقة من نصيبهم، وها هي تعيش وحدها فيها الآن، وقد أطلقت شائعة وجدت من يستمع لها، ويخاف منها، وهي أن الحاج مصطفي يجلس معها يومياً من صلاة الظهر إلي العصر - موعد لفها المحشي - ويتجاذب معها أطراف الحديث عن الآخرة، وعن الجيران، الذين سيأتون له قريباً. وقد صدق الجيران هذه الشائعة لما يسمعونه من أصوات غريبة عند الحاجة روحية، التي تشغل تسجيلات قديمة للحاج مصطفي، كان قد بعث بها إليها أيام سفره للعراق، ولا يعرف أحد عنها شيئاً. وهكذا أصبحت الشقة أمام الناس شقة مسكونة، فابتعدوا عنها لتحمي روحية نفسها - وهي التي تعيش وحيدة - من الحرامية، ووجع الدماغ، والجيران الفضوليين. وساعد علي ذلك أن أبناءها لم يعودوا يسألون عنها، فبقيت الأسطورة، وأصبح الجميع يخاف من الحاجة روحية وشقتها.
لكن يبدو أن عابر السبيل هذا لم يعرف كل الحكاية الطويلة العريضة، التي حكيناها في كل السطور السابقة، والتي تناقلتها الأجيال، لأنه ظل يضرب الجرس علي الحاجة روحية، التي ظنته في البداية مندوب مبيعات، فتجاهلته، وظنته بعدها أحد الجيران، فرفعت صوت الحاج مصطفي في التسجيل حتي تخيفه. ولما ظل الجرس يدق، نظرت من العين السحرية، فلم تجد أحداً. دفعها الفضول إلي فتح الباب، ففتحته، لتجد رجلاً يرتدي ثياباً بيضاء، تتماشي مع لحيته البيضاء، وشعره الأشيب، قال لها: »سلام عليكم يا حاجة روحية».
نظرت له بتمعن وردت: »عليكم السلام يا اخويا.. انت مين؟».
ابتسم الرجل وهو يقول: »أنا رسول».
جفلت روحية وهي تتراجع وتقول: »عليه الصلاة والسلام.. رسول مين فيهم؟»
ضحك الرجل بشدة، قبل أن يقول: »مش نبي يا حاجة ولا حاجة. رسول يعني مرسال.. أنا مرسال».
نظرت له الحاجة روحية في ريبة، وقالت: »مرسال من مين بالظبط؟ ما تآخذنيش ما اقدرش أدخلك».
نظر الرجل في عينها، وهو يقول بصوت عميق: »أنا مرسال من الحاج مصطفي».
خبطت روحية صدرها في ذعر: »يا خرابي.. ما تآخذنيش.. أنا هجيله بعدين.. قل له مش فاضية دلوقت هجيله علي مهلي».
ضحك الرجل مرة أخري: »يا حاجة روحية أنا مش ملك الموت، والأعمار بيد الله.. أنا مرسال من الحاج مصطفي وبيقول لك: وحشني المحشي بتاعك».
هدأت روحية قليلاً: »محشي. محشي إيه يا حاج؟»
قال الرجل: »محشي الكرنب يا روحية.. الحاج مصطفي بيسلم عليكي وبيقول لك عاوز حلة».
كانت روحية مذهولة، مشدوهة، مرتبكة، وفزعة، لكنها وجدت نفسها تسأل: »وهو مفيش محشي كرنب عند ربنا؟».
قال الرجل: »ربنا عنده كل حاجة يا حاجة.. الحاج مصطفي هو اللي وحشه المحشي بتاعك.. ودي منزلة مش لأي حد».
بدت روحية غير مصدقة، لكن خوفها لم يمنعها من أن تسأل: »طب وبالنسبة للريح والغازات وكده لا مؤاخذة.. ما هو الكرنب برضه هينفخ له بطنه وعيب الريحه دي في الجنة».
مال عليها الرجل وهو يقول: »ابقي زودي الكمون يا حاجة.. دي أمارة من الحاج مصطفي.. هاتي الحلة واقري له الفاتحة».
أعطت له الحلة فابتسم لها وهو يقول: »اقفلي الباب وما تبصيش من العين يا حاجة.. وما تنسيش تقري الفاتحة للحاج مصطفي».
أغلقت الباب وهي ترتعش غير مصدقة، وفكرت في أن أحداً لن يصدقها، لو حكت له، ونظرت حولها في فزع باحثة عن أي شيء مختلف فلم تجد. حاولت القرفصة من جديد؛ لتجلس جلستها المستحبة، لكن جرس الباب رن ثانية. كاد قلبها يتوقف من فرط الانفعال، وهي تبسمل، وتحوقل، وتتجه للباب. ولم تنظر من العين هذه المرة، لكنها فتحت الباب وهي ترتعش، فوجدت الرجل أمامها من جديد، وقد غابت الابتسامة عن وجهه. سألته: »خير يا حاج.. عاوز مخلل ولا حاجة؟»
قال لها في غضب: »طب ده اسمه كلام يا حاجه روحية؟ الحاج مصطفي بيقول لك حطاله جاز ع المحشي، عاوزة تموتيه أكتر ما هو ميت». لطمت روحية علي وجهها: »جاز.. جاز إيه يقطعني.. بعد الشر عليه.. يا مصيبتي».
أعطاها الحلة، وهو يقول: »هاضحك عليكي يعني.. شمي».
أمسكت الحلة، وراحت تشم بكل ما أوتيت من قوة. لم تكن ثمة رائحة جاز، وإنما رائحة أخري غريبة. حاولت التعرف عليها، لكن رأسها ثقلت تماماً، فسقطت أرضاً، وهي تقول: »والله ما أنا يا حاج مصطفي.. والله ما أنا..».
وحين قامت روحية، لم تكن مصوغاتها في مكانها، ولا الأجهزة الكهربائية، ولا كل فلوسها، التي كانت (محوشاها) تحت المرتبة. لم يكن هناك سوي حلة المحشي.. وصورة الحاج مصطفي..
(قصة من مجموعة: محاولة أخيرة لقتل بوجي)