أمانى هولة
مع السلامة يا صاحبى.. حكايات وطن (83)
فى أحد منتجعات الجنوب على أرض الفيروز، والقمر، والأنبياء، امتدت يده الصغيرة تسابق القدمين المتعثرتين ممسكة بالكرة ليعيدها إلى صاحبها، فتلتقى العيون الصغيرة دون أن تدرك أنها حصلت للتو على صديق، قربت بينهما سنوات عمر تتسابق أيامها للوصول إلى الرقم ثلاثة، ليندمجا فى دقائق وكأن بينهما عشرة سنين، ولأن الأرواح جنود مجندة، دون سبب يعلمه البشر؛ فقد تلاقت الروحان اللتان لم تلوثهما المصالح والحسابات التى لا تنتهى بعد، ولم يمنعهما اختلاف لون أو جنس أو لغة واضح من ملامحهما، فكانا يقتسمان الضحكة مع قطعة الحلوى واللعبة.. وتدور بينهما حوارات طويلة ليس من أدواتها الكلمات، فقاموسهما لا يزال يقتصر على القليل منها للتعبير عن الاحتياجات الأساسية فى الحياة، والتى كانت تفقد الكثير من ملامحها أثناء رحلتها من فكرة فى العقل إلى صوت على الشفاه، لتصبح طلسماً يعجز عن فكه أمهر الخبراء. لكن قلب الأم يحس به ويفهمه قبل حتى أن يسمعه.. فكان لحوار الصغيرين مذاق خاص، وكأنه نغمات موسيقية حركية تعبيرية، راقصة أحياناً، تبهج القلب الحزين، تجد فيها عذوبة لا مثيل لها فى عالم الكبار، إنها ألحان البراءة.
وهكذا توالت أيام الإجازة سريعاً.. فى كل يوم يلتقى الصاحبان، بينما يتبادل أهل كل منهما نظرات ودودة، مكتفين بالتحية بلغة إنجليزية ركيكة، دون أن يبادر أحدهم بالتعرف على جاره، وقد غمرت الزوجين المصريين مشاعر كرم الضيافة لجيرانهما الغرباء، مكتفين بالتطلع إلى تلك الصداقة النابتة فى القلبين الأخضرين والقيام بدور الحكم أحياناً لفض الخلاف الذى يشتعل فجأة على حيازة عربة الرمل أو الجاروف الملون الصغير، وقبل التفكير فى حل يرضى الطرفين يكون الصغيران قد استأنفا لعبهما كأن شيئاً لم يكن.
وهكذا تراكمت الذكريات على مر عدة أيام جعلت كلاً منهما ملهوفاً للقاء رفيقه فاتحاً ذراعيه منادياً إيّاه باسم ابتكره هو ليلتقيا كل صباح على تهليل واحتفال مَن افترقا طويلاً وليس بضع ساعات فى نوم خلى البال.
وجاء اليوم الأخير من الإجازة، وحان موعد العودة للمدينة بصخبها ولياليها التى لا تنام، وكأن العقل الصغير أدرك أنه لن يرى رفيقه مرة أخرى فلم يكف عن البكاء، مصراً على الذهاب لرؤيته وكأنه يريد أن يراه للمرة الأخيرة ليودعه، وأمام نهر الدموع الذى لا يقاوم صحبه أبوه إلى مكان لعبهما اليومى على الشاطئ، لتحدث مظاهرة حب وفرح من الصديق المنتظر فى حزن ولهفة، ويبدآن فى (التنطيط) وخلق صخب جميل، يحاول الأب الانسحاب بابنه الصغير بصعوبة شديدة وهو يرى الدموع فى عينى الصغيرين وتعلقهما ببعضهما وقد ألّف الله بين قلبيهما، حتى أصبح فى حيرة رغم طبيعته الشرقية المتحفظة، ورغبة أن يمنح تلك الصداقة النابتة فرصة للحياة، رغم صعوبة ذلك عملياً، وحانت لحظة الرحيل، بعد طول محاولات، فامتدت الكف الصغيرة ملوّحة فى الهواء كما علمه أبوه دائماً، وهو يصيح مكوناً جملة واحدة جديدة:
- «يا صاحبى.. مع السلامة.. يا صاحبى».
وفى محاولة مماثلة ظل الصديق الصغير يكرر كلمة غامضة بلغته المجهولة وإن كانت توحى بنفس المعنى وهو يلوح بكفه الصغير محاولاً الإفلات من يد أمه ليجرى فى اتجاه صديقه المبتعد بصوت باكٍ.
انتبه الأب على تلك الكلمة التى استطاع تفسيرها فجأة مع تكرار الصغير، حتى بدت واضحة جداً.. إنها: «شالوم».
لم يدرِ كيف اقتلع ابنه من الأرض وابتعد بسرعة، وهو مذهول.
فى طريق العودة ظل الصغير يصيح مناجياً طيفاً فى خياله وعيناه المندهشتان دائماً تتأمل كل ما حولها، وعقله الصغير غير مدرك لأشياء كثيرة سيعرفها يوماً ما، شرد الأب بخياله متأملاً تلك الجبال المهيبة بامتداد الأفق المفروش بحبات رمال امتزجت بدماء الشهداء، الشاهدة على التاريخ ذاته، وطيف والده يطغى على كل الأشياء.. إنه أحد هؤلاء الذين دفعوا حياتهم ثمناً زهيداً من أجل الوطن، فقتلته خسة وغدر عدو بلا خجل.
وها هى الأيام تدور.. إنها دراما الحياة وما تفعله بنا عندما تلتقى الوجوه مرة أخرى بعد أن تجردها الحياة من كل تلك البراءة والحب، فيقضى الشر على فطرة الحياة الجميلة، ويتحول الرفقاء إلى أعداء، ما بين أشرار وأخيار.
انتبه على صغيره وقد داعبته أستار النوم، وهو ما زال يلوح بيده فى الفراغ، وكأنه يودع أشياء كثيرة لوثتها آثام البشر وأطماعهم التى لا تنتهى، وهو يردد بصوت أرهقه البكاء: «مع السلامة.. يا صاحبى».