الوطن
أمينة خيرى
الرغيف يصرع الإرهاب
الصفيح الساخن الذى تقف عليه مصر ليس خفياً على أحد. وسخونته تستعر يوماً بعد يوم. ومصادر الاستعار كثيرة ومتنوعة، بل منها ما يمكن وصفه بالمتنافر والمتناقض. المزاج العام فى الشارع بائس وترفرف عليه أجنحة الكآبة والقلق. والرأى العام ليس هذا المنعكس فى إعلام الداخل المتشبث بتلابيب أسلحة التخويف تارة، والممسك بخناق أدوات الكذب والخداع تارة. لكنه رأى تسمعه من سائقى الأجرة وفى عربات المترو وعلى المقاهى، الشعبى منها والراقى. وبالطبع هناك رأى عام مكمل، وربما يكون هو الأصلى والمغذى فى بقية محافظات مصر وقراها ونجوعها، وهو الذى لا نسمع أو نقرأ عنه شيئاً. فالرأى العام الذى نلمس ملامحه، ونستشف معالمه أغلبه يعكس رأى سكان القاهرة الكبرى وجانب من المحافظات الحضرية الكبرى. بمعنى آخر هو ذلك الرأى العام الذى يجمع مشكلات وآمال وأحلام سكان المناطق «الحضرية» بالمفهوم المصرى، أى المختلطة فيها مشكلات المدينة المحاطة بالعشوائيات والمكبلة بهجرات داخلية ساكنة لكنها مستمرة. وعلى الرغم من فداحة بالوعة الإسلام السياسى بدرجاته والمتفجرة فى العالم بأسره، والمتمثلة فى مصر فى نظام صرف سياسى متهالك أفرز على مدى عقود جماعة كالإخوان «آند كو» من «سلفيين» و«جهاديين» و«تكفيريين» ومواطنين يعتقدون أنهم مدنيون لكنهم فى حقيقة الأمر متسلفنون متعصبون غارقون حتى آذانهم فى تفسيرات مغلوطة ومخلوطة بجاهلية مقيتة نتاج سنوات من تفجر ألغام متأسلمة عدة، فإن الوضع الآنى لا يتوقف عند حد المواجهة بين المتأسلمين وبقية المصريين، بل امتد ليشمل ألغاماً عدة. هذه الألغام تتمثل فى سعر الأرز، وقضايا الفساد، وانهيار منظومة المدرسة تماماً، وعودة البلادة البيروقراطية وحماقة البعض فى السلطة التنفيذية، وعنجهية وغطرسة من الجميع على الجميع، والمضاف إليها استقواء بمنظومة حقوق وحريات أتت بها ثورة يناير، لكن أسىء استخدامها وتم تعميم أشكالها العشوائية لتتحول إلى أداة حرب بين الأطراف المتصارعة وليس وسيلة لتحقيق الديمقراطية ونشر قيم الدولة المدنية. خذ عندك مثلاً حكاية واحدة لا ثانى لها يرددها مواطنون وتعتمد على مبدأ «العنعنة»، حيث قال «عم أحمد» لـ«ست فتحية» نقلاً عن «الأستاذ فتحى» الذى يتصل بصلة قرابة بـ«مدام رقية» صديقة «الحاجة مفيدة» جارة «رشا» التى نقلت عن صديقتها «سها» ما حدث لزوجة بواب عمارتها «أم هانى». فيقال إن «أم هانى» وقفت تشترى كوزاً من الذرة لهانى، ففوجئت بأن سعر الكوز ثلاثة جنيهات، فاستاءت واشمأنطت وأخذت تبرطم لاعنة العيشة واللى عايشينها، والحكومة والنظام، والناس اللى واكلينها والعة على حساب الغلابة من غير القادرين على شراء كوز ذرة لهانى. وسمعها المارة، فحاول أحدهم تهدئتها، فاتهمته بأنه «يدعم السيسى»، وتستمر القصة، ولكن بتنويعات مختلفة بين داعمين للإخوان يروون أن الشارع كله وقف معارضاً السيسى ومطالباً بثورة شعبية عارمة، ومحبين للمتأسلمين لكن دون أن يدروا فتتأرجح نسختهم بين مقارنات عصر «مرسى» ووزير تموينه «باسم عودة» والنظام الحالى ووزير تموينه «خالد حنفى»، وهلم جرا. والعبرة هى أن الشارع يموج بخليط من المشاعر الغاضبة. فمن جهة تجد غالبية المواطنين نفسها تكتوى بأسعار مشتعلة لا ضابط أو رابط لها، بل الأمر متروك برمته لنزوات وشهوات ورغبات التجار مع قليل من التصريحات المستفزة على شاكلة «إجراءات صارمة لضبط الأسعار» و«عقوبات شاملة للمتاجرين بقوت الشعب» و«قرارات عاجلة للتأكد من توافر السلع الأساسية» إلخ. ومن جهة أخرى، تنتاب المصريين أحاسيس تشبه من ينتظر نزول المقصلة على رقابهم، وهو النزول المتمثل فى ضريبة قيمة مضافة وآثار قرض الصندوق ودخول المدارس واستمرار توقف السياحة، وقائمة الرعب طويلة. ومن جهة ثالثة، سلّم الجميع بأن التغيرات الإيجابية القليلة التى طرأت على المجتمع فى أعقاب ثورة يناير من اعتدال الشرطة فى التعامل مع المواطنين، والتزامهم بالقوانين ليكونوا قدوة، وتعفف أو توقف أو حتى خوف صغار الموظفين من تقاضى رشاوى نظير إنهاء مصالح المواطنين، وانتهاء كارثة فساد الكبار المحميين بمناصبهم أو مكاناتهم، قد ذهبت أدراج رياح الآثار العكسية للثورة وطفح مواسير الصرف الأخلاقى والسلوكى والاجتماعى فى وجوه الجميع. وعلى الرغم من استمرار التهديدات الخارجية من مؤامرات ومخططات تحاك ضد البلاد والعباد بأشكال شتى، وتواتر الأخطار الداخلية من جماعات إرهابية مباشرة يتم التعامل معها وتقليص خطرها على مدار الساعة، وتواصل هواية الجماعات المتأسلمة فى الصيد فى المياه العكرة وتشبثها بآمال محطمة تتركز حول عودة الشرعية والشريعة ومعاودة قفزها على السلطة والسطوة، إلا أن الخطاب الإعلامى الذى يفترض أنه داعم للمصلحة العامة يدق وينق ويطق فى دائرة الإخوان، وتحذيرات التحول لسوريا أو عراق أو يمن أو ليبيا، وتجميل قرض الصندوق وتزيين مجلس النواب وتنميق تصريحات الوزراء. وعلى الرغم من صحة الجانب الأكبر مما يتم تناوله وتداوله فى هذه البرامج فإن مزاج الشارع بدأ يتململ ويتضجر. فالشارع لم يكن يوماً مسيساً، بل اعتنق السياسة حديثاً تحت تأثير الحراك الثورى والسطو المتأسلم وإيقاع التغيرات الداخلية والإقليمية المتسارع. لكن السعة الاستيعابية للمخ البشرى تظل محدودة. فالمواطن لا يملك رفاهية الاكتفاء بالسياسة، سواء كانت إخوان أو سلفيين أو حمدين أو برادعى أو الرئيس السيسى نفسه. ولن يقوَ المواطن على الدفاع عن نظام بعينه، أو شخص دون غيره دون أن يكون ضامناً لقوت يومه ومستقبل غده، حتى لو كانت المخاطر السياسية جمّة والأخطار الأمنية محدقة.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف