د. محمود خليل
«الصحة» محتاجة «رضاعة»..!
أزمة لبن الأطفال نموذج على الكيفية التى تلعب بها بعض الوزارات ومؤسسات الدولة دوراً فى خلق مشكلات تؤدى إلى هز الاستقرار. قرار اتخذه وزير الصحة الدكتور أحمد عماد الدين بميكنة توزيع ألبان الأطفال بنظام البطاقة الذكية، كانت نتيجته أزمة عانى منها الآباء والأمهات عندما ذهبوا إلى منافذ التوزيع الخاصة بالشركة المصرية لتجارة الأدوية للحصول على ما يلزم أطفالهم من علب الألبان. اضطر البعض إلى الاحتجاج، واضطر آخرون إلى الذهاب إلى السوق السوداء والحصول على علبة اللبن بسعر يتراوح ما بين 90 و100 جنيه. وطبعاً العلب المتوافرة فى السوق السوداء هى العلب المدعومة!، وكأن البعض يريد نقل أزمة سوق الدولار إلى سوق الألبان، ليصبح لدينا سوق «اللبن الرسمى» وسوق «اللبن الموازى»!.
والسؤال: لماذا لم يتروّ وزير الصحة ويمنح الأسر فرصة لاستخراج البطاقات الذكية للحصول على حاجة أطفالهم من الألبان، ثم يطبق النظام بعد ذلك من أجل حماية أموال الدعم من الإهدار؟. الوزير أراد أن يحل مشكلة إهدار الدعم بمنطق «هى فوضى»، فاتخذ القرار دون دراسة لنتائجه، وتسبب فى حرج بالغ للدولة اضطرت معه القوات المسلحة إلى الإعلان عن شراء 30 مليون علبة لبن، وبيعها بالصيدليات بنصف ثمنها. ليس ذلك وفقط، بل شهدت منافذ التوزيع تزاحماً تحول مع عدم وجود علب اللبن إلى احتجاجات وقطع طرق، ولو أنك تابعت بعض الفيديوهات التى سجلت احتجاجات الأمهات، ستلاحظ كم الحنق الذى يشعرن به، وهو أمر ينذر بالخطر.
فى شهر مارس الماضى أعلنت وزارة الصحة أنها بصدد إنشاء مصنع لإنتاج لبن الأطفال بالتعاون مع وزارتَى الزراعة والإنتاج الحربى لتوفير الألبان ذات الجودة العالية بأسعار تناسب غير القادرين ومحدودى الدخل، وكانت النتيجة بعد ستة أشهر أزمة فى الألبان!. وأخشى أن يكون الوزير قد أطلق هذا الكلام كنوع من الاستهلاك المحلى، لأننا لم نسمع أخباراً كبرى عن وزارة الصحة -منذ الحديث عن موضوع المصنع- إلا خبرين، أولهما القبض على مستشار وزير الصحة لشئون الأمانات الطبية أواخر شهر مايو الماضى، ثم الخبر المتعلق باحتجاجات الجمهور على عدم توافر ألبان الأطفال!.
هشاشة أى وزارة أو مؤسسة يجعلها دائماً بوابة ناجحة لخلق المشكلات وإثارة غضب المواطنين، وقديماً قيل: عظيم النار يأتى من مستصغر الشرر. وراء الهشاشة تختفى آفتان: أولاهما عدم دراسة القرارات، كما فعلت «الصحة» حين قررت تطبيق منظومة الكروت الذكية، قبل أن تتوافر فى أيدى المواطنين، والثانية عدم مراعاة ظروف الوقت. فالناس هذه الأيام تعانى أشد المعاناة جراء ارتفاع الأسعار، والكثيرون أصبحوا نهباً للشائعات التى يروجها خصوم النظام، فى ظل أجواء كهذه لا بد من التريث فى إصدار القرارات، لأن قراراً متسرعاً كهذا يمكن أن يفجر أزمة كبرى تتأسس على تلال المعاناة التى يكابدها الناس، بل ويمنح البعض فرصة للحديث عن أن الوزارة تريد أن توسع السكة لأفراد معينين للسيطرة على سوق الألبان، بعد أن فرضت نوعاً من الحصار على الشركة الحكومية المسئولة عن استيراد وتوزيع الألبان. ذلك هو معنى هشاشة المؤسسة. وبالمناسبة يقول أهل الطب إن الرضاعة غير الجيدة تؤدى إلى هشاشة العظام، وحالة الهشاشة التى تبدو عليها وزارة الصحة تجعلنا نقول إنها محتاجة «رضاعة»!.