سامى شرف
الديموقراطية كما كان يراها جمال عبد الناصر
هل الديموقراطية هي حرية المستغلين في الاستغلال فقط ؟
أبسط تعريف للديكتاتورية هو الحاكم الذي يقهر الأغلبية من شعبه لمصلحة الأقلية المستفيدة من حكمه ونظامه فهل كان عبدالناصر يقهر الأغلبية ؟!
لقد عاش ومات وهو يحارب من أجل أن تسترد الأغلبية من شعب مصر وأمته العربية، ويمكن بلا مبالغة نقول دول العالم الثالث أيضا، حريتها وإنسانيتها وقدراتها علي أن تصوغ حياتها بنفسها. وتمتع عبدالناصر بما لم يتمتع به زعيم أو قائد من نفوذ وحب شعبي جارف، وكانت جماهير الأمة العربية من البحر إلي البحر هي الدرع لجمال عبدالناصر، هذه الجماهير لم تكن عمياء ولا عرجاء، فالقول بأن عبدالناصر كان ديكتاتورا فيه إهانة للشعب واستخفاف بوعيه .. لقد كان عبدالناصر ديكتاتورا بل طاغية بالنسبة للإقطاع والاستعمار والاستغلال، لكنه كان بطلا وزعيما ومحررا عظيما بالنسبة للغالبية الساحقة من الشعب بعماله وفلاحيه ومنتجيه. الجماهير كانت مصدر قوته، وعلاقته بها كانت مباشرة وعابرة للوسائط .. هل ننظر للديموقراطية بالمفهوم الليبرالي الغربي ؟ هل هي فقط مجرد حرية للتعبير دون النظر إلي المفهوم الاجتماعي للحرية . ما ينقص جماهير الأمة العربية ليست حرية التعبير فقط، بل ينقصها حقوق أكبر وأخطر.
المجتمع المصري في بداية الثورة كان فيه حرية سياسية بمفهوم ضيق حيث إن نصف المجتمع لم يكن له حق التصويت ( المرأة )، كما كان الترشيح حكرا علي من يمتلك
نصابا معينا من الثروة، وبالنسبة لسن الترشيح (الشباب) كان 21سنة خفضت إلي 18 سنة وبالتالي كان من الناحية العملية حوالي 80% من الشعب خارج نطاق الحريات الليبرالية التي يتشدقون بها ، هذا بالإضافي إلي الأمية والجهل واحتكار نصف في المائة للثروة الوطنية..أليس هذا مصادرة عملية ؟
وقال عبدالناصر إن تحرير لقمة الخبز هو أول وأهم شرط لتحرير إرادة الناخب ، وبدأ عبدالناصر في إعطاء المواطن نصيبا عادلا من ثروة بلاده، وقضي علي الاستغلال أو كاد، فأسقط أعتي موانع الحرية : الفقر ، وبذل جهودا جبارة من أجل التنمية وتحديث المجتمع، ثم وسع قاعدة الحقوق والخدمات في المجتمع وعلي رأسها حق التعليم المجاني والعلاج المجاني وقفزت إلي السطح طبقات وقوي ما كان لها في ظل الأوضاع القديمة إلا أن تظل مقهورة علي هامش الحياة في المجتمع .
كان الرجل يبني الديموقراطية والحرية الحقيقية للمواطن، وبدأ العد التنازلي لبناء القاعدة السليمة الصحيحة وهي تغييرالظروف الاجتماعية التي كان يستند
إليها القهر السياسي . وكان الطريق طويلا ، فقد يسأل سائل : إن الثورة توقفت عند بناء القاعدة دون أن تكمل فوقها البناء للديموقراطية السياسية، وأقول أن السياق الذي جرت فيه الأحداث مهم جدا لأنه هو الوحيد الذي يفسرها بواقعية . فعشية الثورة كان علي المسرح أحزاب الأقلية التابعة للسراي والإنجليز، ثم حزب الوفد والإخوان المسلمين والشيوعيون .
الوفد أعلن موقفا معاديا لتوجهات الثورة في التغيير الاجتماعي مبكرا ورفض قانون الإصلاح الزراعي الأول، وشاركه في هذا باقي الأحزاب المرتبطة بالسراي وبالإنجليز، وهي قوي تلاشت قدراتها علي التأثير تحت ضغط التأييد الشعبي الجارف للثورة وبرنامجها للتغيير الشامل، وانسحبت قاعدة الوفد الجماهيرية من تحت قياداته وأيدت الثورة.
أما الشيوعيون فلم يستطيعوا أن يفهموا ما حدث الفهم الصحيح، وكانت نظرتهم قاصرة ووقعوا في أخطاء تقييمهم للثورة وسجنوا أنفسهم في داخل نماذج نظرية جامدة وبعيدة عن واقع المجتمع ورأي الأغلبية وكان رأي أكثرهم في الثورة أنها مجرد انقلاب عسكري فاشي باعتبار هذا هو الوصف والكليشيه الجاهز لديهم ولم يستطيعوا إلا متأخرا أن يضعوا أيديهم علي الجوهر التحرري المتقدم لبرنامج ومنجزات الثورة .
إن اليسار الحقيقي في مصر هو الشعب .. جماهير الناس الذين عاشوا وحملوا المسئولية، مسئولية القضية الوطنية والاجتماعية، والذين أصبحت مصر لهم هؤلاء هم اليسار الحقيقي الذين لا يمكن أن يتجهوا يمينا أو أن يسمحوا لليمين أن يحكمهم أو أن يرتد بهم ولا أن يعود الملاك والرأسماليون . إن اليسار ليس طائفة أو فرقة أو حزبا، ولكن مجموع الفقراء والمحرومين ومن يتطلعون إلي عالم أفضل وإلي مجتمع إنساني .. هؤلاء هم اليسار . أما الإخوان المسلمون فقد كانوا منذ البداية يبذلون المحاولات لفرض الوصاية علي الثورة ومحاولة احتوائها، وأن يعترف لهم عبدالناصر بأنهم الأب الروحي للثورة ويلتزم بالتالي بتوجيهاتهم السياسية وحينما شعروا بفشلهم في احتواء الثورة وفرض وصايتهم عليها تحولوا إلي ممارسة نوع خطير من الضغط تمثل في العنف والإرهاب المسلح التي بلغت ذروته في حادث المنشية بالإسكندرية حين حاولوا قتل جمال عبدالناصر، هذا الحادث الذي كان له ردود فعل واسعة وجعلت منه نقطة تحول مهمة في سلوك النظام الثوري وذلك بتدعيم وتقوية الجهاز الأمني كإجراء وقائي وهو حق مشروع وواجب في مثل هذا السياق .
إذن هناك أسباب موضوعية وليست تبريرات لما حدث من صدام مع القوي السياسية، والقول بغياب الديموقراطية السياسية فيه كثير من التجني ، فلا يمكن إغفال إعطاء المرأة حق الانتخاب والترشيح وقد سبقت مصر بذلك الولايات المتحدة الأمريكية وسويسرا وبعض بلدان أوروبا وتخفيض سن الانتخاب إلي 18 سنة، كما ولا يمكن إغفال حق العمال الذي كفلته الثورة في اختيار ممثليهم في مجالس إدارات شركاتهم ومصانعهم، مع توسيع قاعدة المشاركة في الحكم ولم يقل أحد أن هذه الأمورقد تمت لاسيما أنه كانت هناك تحديات خارجية وداخلية تجابه رحلة الثورة طوال الثمانية عشر عاما دونما انقطاع . ولا ننسي في هذا المجال ممارسة عبدالناصر للنقد الذاتي وهذا ظاهر في أغلب محاضر مجلس الوزراء واجتماعات اللجنة التنفيذية العليا للاتحاد الاشتراكي وبصفة خاصة تلك الجلسات التي تمت بعد الانفصال بين مصر وسوريا وبعد نكسة يونيو1967 والمؤتمر القومي العام في يوليو1967 و1970 0 وهي المحاضر التي وردت بنصها في جزء آخر من هذه المذكرات . وما أريد أن أؤكد عليه هو أن جمال عبدالناصر أكد أن الاتحاد الاشتراكي ليس نهاية المطاف وحدد رؤية مستقبلية في شكل تعددية حزبية وكانت معوقات الديموقراطية في تجربة عبدالناصر تتلخص في العناصر التالية : المؤسسة العسكرية والتي أصبحت شبه طبقة تستميت في المحافظة علي امتيازاتها وتقف حجر عثرة أمام أي نظام سياسي شعبي يضعها في مكانها الصحيح وهذه المؤسسة لم تسقط إلا بعد حرب 1967.
التنظيم السياسي كان يتم تكوينه من فوق، من مواقع السلطة، مما سرب بيروقراطية وانتهازية سعت إلي تجميد حيوية التنظيم السياسي وتفاعلاته .
كان جمال عبدالناصر هو القيادة الوحيدة والزعامة الوحيدة التي يمكنها أن تستجيب لها الجماهير لينظمها، ولكن انشغاله حال دون ذلك نتيجة أوضاع فرضت عليه فرضا ولم تكن أبدا بمبادرة منه كما لم يكن له يد في الابتعاد عن مجابهة هذه الأخطار الخارجية والداخلية بشخصه في أغلب الأحيان .
تعاظم دور الأجهزة الأمنية وأسبابه كثيرة وغير مقصودة بل فرضتها وقائع معينة كما سبق أن ذكرت فرضا، كما فرضتها أوضاع وتصرفات داخلية وخارجية ( تآمر ) لم يكن هناك مفر من مجابهتها إلا عن هذا الأسلوب الأمني .
الإستراتيجية المعادية : فمصر مفتاح المنطقة ولابد أن يظل هذا المفتاح محفوظا في مكان معزول وناء ولابد أن تجرد مصر من قوتها وثروتها، وأهم من ذلك من شخصيتها وأن تصنع لها شخصية أخري تابعة .