الأهرام
حسن ابو طالب
قطار التطبيع التركى ومحطة القاهرة
منذ إفشال ما يعرف بمحاولة الانقلاب العسكرى ليلة الخامس عشر من يوليو الماضى، وهناك الكثير من التغيرات المتسارعة فى المواقف التركية سياسيا وعسكريا، داخليا وخارجيا، بهدف بلورة دور إقليمى جديد يستفيد من الخبرة السلبية التى حلت بتركيا فى السنوات الأربع الماضية، وإعادة صياغة المُعادلات الرئيسية فى الإقليم بحيث تستعيد انقرة مصالحها ومكتسباتها التى ضاعت، وتقدم نفسها مرة أخرى كقوة إقليمية نموذج توجه الأحداث والتطورات، وأداتها الرئيسية وفقا لرئيس الوزراء بن على يلدرم ، هى استعادة الأصدقاء والتطبيع مع الذين فقدتهم انقرة فى المرحلة الماضية، وأبرزهم روسيا وإسرائيل ومصر وسوريا.

الطرفان الأولان أى روسيا وإسرائيل تم التطبيع معهما بالفعل، وكانت قاعدته الرئيسية أن تقدم أنقرة كل التنازلات الممكنة مقابل انفراجة كبرى فى علاقاتها مع كل من موسكو وتل أبيب، على أن تأتى العوائد لاحقا. وفى هذا السياق وعلى سبيل المثال يمكن القول إن التحرك العسكرى التركى فى شمال سوريا وتدخله المباشر فى مناطق الأكراد السوريين هو نتيجة مباشرة لتفاهمات مع روسيا - حتى وإن لم يُعلن ذلك صراحة - والتى تلعب دورا حاسما فى التطورات العسكرية على الأرض السورية. والآن وبعد التطبيع مع موسكو وانتهاء العقوبات الروسية بات الرئيس التركى يتحدث علنا بعد تدخل دباباته الأراضى السورية عن حلمه القديم فى إنشاء منطقة عازلة بعمق يتراوح بين 30 و 40 كم داخل الأراضى السورية وبمحاذاة الحدود المشتركة بهدف منع أكراد سوريا بقيادة مشتركة من حزب الاتحاد الديمقراطى وقوات سوريا الديمقراطية من إنشاء كيان كردى قد يمهد للانفصال عن سوريا، ويهدد بالتالى أمن تركيا ووحدتها الإقليمية.

ومعروف أن منع إنشاء كيانات كردية مستقلة هو هدف استراتيجى مشترك بين كل من انقرة وطهران ودمشق أيا كان النظام القائم، وهو ما يفسر جزئيا صمت طهران على التحرك العسكرى التركى، وربما يفسر أيضا بعض التطورات المحتملة فى علاقة أنقرة بدمشق لاحقا، والتى تظهر بعض مؤشراتها فى حديث رئيس الوزراء التركى عن رغبة بلاده فى التطبيع مع سوريا وفى استعادة علاقات طبيعية بين الشعوب، والأهم قبول مبدأ أن يلعب الرئيس بشار الأسد دورا فى المرحلة الانتقالية لأى تسوية سياسية يمكن التوصل إليها وتتطوع بعض المصادر فى توقع أن تكون هناك مبادرة روسية لجمع الرئيسين أردوغان والأسد فى الأسبوع الأخير من سبتمبر الحالى، فيما يعكس المناخ الجديد الذى قد تصل إليه علاقات تركيا مع سوريا، وفى الخلف من ذلك تفاهمات ثلاثية بين أنقرة وموسكو وطهران. وإن حدث الأمر فسوف يشكل تحولا كبيرا فى الأزمة السورية، وأيضا ضربة كبرى لكل من يتصورون أن تركيا يمكن أن تستمر على مواقفها المناهضة للرئيس بشار الأسد إلى الأبد التقلبات التركية الُمشار إليها هى تعبير لا لبس فيه عن «البراجماتية» التى توجه الرئيس أردوغان وحكومته تجاه القضايا الإقليمية من منظور المصلحة الذى لا يُعلى عليه أى شئ آخر. وهنا يأتى السؤال أين مصر من هذه البراجماتية التركية، وبالتالى متى يصل قطار التطبيع مع القاهرة؟ بداية لابد من ملاحظة أن التصريحات التركية تجاه مصر تحمل تناقضات شتى، وبينما يدعو رئيس الوزراء التركى إلى فتح صفحة جديدة فى علاقات البلدين، تبدأ بالاقتصاد والسياحة والتبادلات الثقافية وكذلك التعاون العسكرى، لكنه لا يتورع عن القول إن الوضع السياسى فى مصر هو وضع غير مقبول وفيه ظلم لرئيس منتخب وجماعته، وكذلك يشترط وزير الخارجية التركى تغيرات فى السياسة الداخلية المصرية قبل أى تطبيع، أما أردوغان فهو واضح تماما بأن التطبيع مع مصر يختلف عن التطبيع مع روسيا وإسرائيل، وأن السبب من وجهة نظره هو فى النظام السياسى المصرى وأحكام القضاء ضد مرسى وجماعته والتى يراها ظالمة ويجب وقفها.

ما تطرحه أنقرة باختصار للوصول بالتطبيع إلى المحطة المصرية هو أن تتغير مصر أولا وأن تطبق الشروط التركية والتى هى فى جوهرها تدخل سافر مرفوض فى الشأن الداخلى المصرى، وفى أفضل الأحوال يطرح الأتراك أنه يمكن التطبيع جزئيا من خلال زيادة التبادل التجارى وفتح المجال امام الاستثمارات التركية وتسهيلات من أجل السياحة ثم فى مرحلة لاحقة تبادل زيارات الوزراء، وفى النهاية قد يتم التطبيع الكامل إن التزمت مصر بالطروحات السياسية التركية وراعت جماعة الإخوان الإرهابية. وهنا يبدو التناقض التركى فى قمته، فكيف يمكن التعامل مع نظام وحكومة لا يعترفون بها ويريدون منها أن تسهل للجانب التركى تحقيق منافع اقتصادية وسياحية واستثمارية؟

مشكلة الطرح التركى أنه يعامل الحالة المصرية رسميا وشعبيا وكأنها بلا إرادة وبلا كرامة وأن لديه الحق الكامل فى وضع الشروط وعلى القاهرة الانصياع، وأن أنقرة ملتزمة برفع الظلم عن العباد فى مصر وفى غيرها. والقاهرة بدورها لديها شروط لا يمكن التخلى عنها، أبرزها الاعتراف بإرادة المصريين فى 30 يونيو وما ترتب عليها من مؤسسات شرعية منتخبة، والتوقف الكامل عن دعم ومساندة الأعمال العدائية التى تقوم بها الخلايا الاخوانية. وإن التزمت أنقرة بهذه الشروط ، فعندها فقط قد يصل قطار التطبيع التركى إلى محطة القاهرة.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف