جلال امين
مشكلة الأصالة والمعاصرة.. فى فرنسا أيضا
بلادنا العربية والإسلامية مشغولة منذ زمن طويل، بمشكلة الأصالة والمعاصرة، أى قضية التوفيق بين صيانة الهوية واحترام التراث والتقاليد، وبين مسايرة العالم المعاصر، والأخذ بمقتضيات الحداثة والتقدم، ثارت المشكلة لأول مرة مع بداية اتصالنا بالحضارة الغربية الحديثة، منذ أكثر من قرنين، ولكنها لاتزال تلح علينا، ولا نصل فيها إلى قرار، أو على الأقل تتوزع فيها مذاهبنا بين أنصار المحافظة على الهوية والتراث، وأنصار التحديث والتغريب، ولا ينجح أحد فى التوفيق بين الفريقين، فتتكرر المحاولة من جديد، المرة تلو الأخري، من رفاعة الطهطاوي، أو قبله بقليل، إلى زكى نجيب محمود، أو بعده بقليل.
هل كان من الممكن أن يتصور المرء، أن يحدث ما يجعل الأوروبيين، وهم مصدر هذا التهديد الذى فجر القضية أصلا، يعانون هم أيضا المشكلة نفسها، أو مشكلة مشابهة جدا لها وإن لم تكن تستخدم فيها نفس العبارة (الأصالة والمعاصرة)؟ بل قد لا يفطن الأوروبيون أنفسهم إلى أنهم يواجهون المشكلة نفسها، لأنها تأتى الآن فى رداء مختلف.
فمنذ أيام قليلة، ثارت فى فرنسا مشكلة عميقة المغزي، ولكنها لا تخلو أيضا من طرافة، واحتدم حولها الخلاف فى فرنسا (ولا شك فى بقية أوروبا أيضا)، واختلف فيها موقف القضاء الفرنسى عن موقف بعض السلطات المحلية التى مازالت تصر على تحدى حكم القضاء، وتصمم على أنها هى التى على صواب، وتتعلق المشكلة بقيام بعض السيدات المسلمات الفرنسيات بارتداء زى يسمى (البوركيني)، على شاطيء البحر فى بعض مدن الاصطياف الشهيرة فى فرنسا، وهو زى يوصف أحيانا بأنه «زى إسلامي»، إذ تحتشم فيه المرأة الراغبة فى النزول الى الماء، بتغطية شعرها بحجاب، وتغطية جسمها بأكثر بكثير مما اعتادت أن ترتديه المرأة الفرنسية منذ زمن طويل.
كان من المفهوم تماما أن تشعر النساء الفرنسيات الجالسات على الشاطيء، وقد كشفن عن أجسادهن على النحو المعروف، استعدادا للنزول الى الماء أو للتعرض لأشعة الشمس، بشعور من الحرج (قد يصل الى درجة النفور) من السيدات المسلمات اللاتى يتخذن زيا مختلفا تماما، قد يبدو الأمر للبعض هينا ولا يستدعى أى اهتمام، على أساس أن المرأة المسلمة لم تتدخل تدخلا مباشرا فيما ترتديه الأخريات (أو بالأحرى فيما لا ترتديه)، فما سبب الغضب أو النفور؟ ولكننا يجب أن نعترف بأن الأمر ليس بهذه البساطة، البعض يرى فى ظهور بعض النساء بهذا الزى المسمى الزى الإسلامي، ما يشبه المظاهرة الدينية، وأن هذا، فى ظل الظروف السائدة من قيام من يسمون بالإرهابيين الإسلاميين بأعمال مختلفة من العنف، فى بلد أوروبى بعد آخر، وفى أوقات متقاربة، يثير المخاوف والجزع، ومن ثم يجب منعه أو تقييد الحرية فى ممارسته، كما هو الواجب مع أى مظاهرة تهدد الأمن.
ولكن البعض يقول (وهو فى رأيى أقرب الى الحقيقة)، إن سبب الاحتجاج والنفور أن ارتداء بعض السيدات هذا الزى يمثل تحديا للشعور العام، بل وقد يحمل رسالة من الازدراء المستتر والاحتقار من جانب من ترتديه الى سائر السيدات لقبولهن الكشف عن أجسادهن على هذا النحو، وكأنه تعبير صامت عن أن هؤلاء النساء شبه العاريات يرتكبن خطأ أخلاقيا، ومن ثم كان تحرك بعض السلطات المحلية فى فرنسا، بإصدار قرار بمنع ارتداء البوركينى على الشواطئ، من قبيل حماية ما يسمى بـ«النظام العام»، أى الشعور السائد والتقليد المتبع مما يسبب الخروج عليه نفورا وسخطا عاما.
أذكر حادثة وقعت منذ سنوات عديدة فى إحدى المدن الأمريكية الكبرى (ربما كانت مدينة بوسطون)، إذ صعدت امرأة الى سيارة أتوبيس عمومى وهى عارية الصدر، فقادها البعض الى مخفر الشرطة على أساس أنها تفعل ما يتحدى الشعور العام، واحتجت المرأة بحقها فى اختيار ما تشاء من ثياب، وبأن الرجال يسيرون أحيانا فى الطريق العام دون أن يغطوا صدورهم، ولكن القضاء الأمريكى رفض حجتها، واعتبر ما فعلته خروجا على النظام العام، أما القضاء الفرنسى فى حادثة البوركينى الأخيرة، فقد اعتبر أن ارتداء هذا الزى لا يشكل خروجا خطيرا على النظام العام يستدعى منعه.
المسألة دقيقة إذن وشائكة، ولكنها لهذا السبب مثيرة للفكر وجديرة بالتأمل، وقد خطر لى أن هناك شبها بين قضية البوركينى وبين ما نسميه نحن قضية الأصالة والمعاصرة، إن بعض الداعين الى منع هذا الزى يقولون إن ارتداءه فى فرنسا يتعارض مع «العلمانية» السائدة فى فرنسا، إذ ترفض العلمانية إقحام الدين فى التنظيم الاجتماعى والسياسي، وفى مظاهر السلوك العام، بينما يقول الطرف الآخر إن هذا المنع يتعارض مع مبدأ الحرية الشخصية وحق الإنسان فى ارتداء ما يعجبه، ولكن هذا الخلاف الدائر يمكن صياغته صياغة أخرى قد تكون أقرب الى السبب الحقيقى للاختلاف، المنادون بالمنع يريدون حماية ما يعتبرونه تقليدا فرنسيا عريقا، تشرب به الفرنسيون، واعتادوه حتى أصبحوا ينفرون من أى محاولة لتحديه والخروج عليه، ومن ذلك الكشف عن الجسم على الشواطيء، وأما المصرون على حرية النساء المسلمات فى ارتداء البوركينى على الشواطيء، فيعتبرون هذا المنع خروجا على مبدأ التسامح الذى تقتضيه متطلبات العولمة، مع تزايد الاختلاف بين أصحاب الثقافات المتباينة الموجودة جنبا الى جنب فى نفس الدولة، وانفتاح أوروبا على تيارات الهجرة من كل صوب ومختلف الأديان، الخلاف إذن، إذا نظر إليه على هذا النحو، يصبح فى الحقيقة خلافا بين أنصار «الأصالة»، أو حماية التراث أو الهوية، أى ما اعتاده الناس وألفوه، وبين أنصار «المعاصرة»، أى الاعتراف بأن الظروف الجديدة قد تستدعى سلوكا جديدا، ولو كان خارجا عن المألوف.
هاقد دار الزمن دورته، وتحول الداعون إلى التجديد الى متمسكين بالمألوف، وتحول المتمسكون بالأصالة الى الدعوة للتسامح مع الجديد وغير المألوف، والظاهر أن الذى سيحسم الأمر هذه المرة (وهو ما يحسم الأمور عادة) ليس المفاضلة بين الصواب والخطأ، بل ما يسفر عنه صراع القوة، فينتصر الطرف الأقوى الذى قد لا يكون بالضرورة الأقرب الى الصواب، وهو بالضبط ما حدث فى الصراع القديم بين الأصالة والمعاصرة، إذ لم ينتصر الداعون للمعاصرة لأن رأيهم أقرب الى الصواب، ولكن لأنهم ليسوا الأقدر على فرض رأيهم بالقوة.