هشام النجار
سيد قطب ومؤتمر أهل السنة فى جروزنى
مؤتمر»أهل السنة والجماعة» تصادف مع مرور نصف قرن على إعدام سيد قطب؛ ليبدو كأنه حسم لهوية الأمة بعد أن سطا عليها تيار التكفير والعنف لعقود.
طبيعة النشاط يترتب على تحديد الهوية فمن أراد إنتاج الأقمشة مثلاً لن يفتتح مصنعاً للسيارات إنما سيحدد طبيعة نشاطه وأدواته ليحصل فى النهاية على منتجه الذى خطط لتصنيعه والاستثمار فيه، والأمة تاهت بعد أن تنوعت المنتجات التى ترفع عناوين الإسلام وتزعم تمثيلها لأهل السنة فإلى أى إسلام تنتمى هل لإسلام بن لادن أم القرضاوى أم البغدادي..الخ؟ وهل هو منهج الاغتيالات والتفجيرات للانضواء تحت الحكم الإلهى خلف حكومة يتصدرها قادة الجماعات؟ وأين طريق الله وإقامة الدين فى الضمير والأسر والمجتمعات وسط ممارسات ومصطلحات شتى من جاهلية إلى حاكمية إلى حزبية؟
لذا لزم تحديد هوية الأمة، فهل هى أمة حاكمة قاهرة لا تقوم بمهامها إلا من خلال سلطة وسيطرة، أم أمة داعية مبلغة؟ وبين هذين التصورين والنموذجين فجوة زمنية تسببت فى هذا التيه، حيث انطلق البعض من ردات الفعل السياسية والتوظيف السياسى لبعض التيارات والشخصيات بداية من أوائل القرن العشرين لتتشكل منهجية الصراعات المسلحة ضد الدول والمجتمعات، بينما الانطلاق الطبيعى والمنطقى من تاريخ الإسلام المبكر وإنتاج ومواقف رموزه ومفكريه وعلمائه الحقيقيين للعثور على هوية الأمة الداعية المبلغة المحبة للسلام المنتجة للحضارة والرقي.
سيد قطب كتب اشراقات مدهشة أضافت لمبحث الإعجاز الفنى واللغوى والبيانى للقرآن إلا أنه وقع فى فخ الانطلاق بمنهج متعسف ومجتزأ من ردود الأفعال السياسية فأهمل الرؤى التجديدية الإصلاحية التى أطلقها محمد عبده وطور طرح رشيد رضا والبنا والمودوى نحو توظيف مفاهيم «الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر» و «الجهاد» و «الخلافة» سياسياً لإقامة «الحكومة الإلهية» وإزالة حكومة «الفجرة الكفرة» بتعبير المودودى! مع بث روح الاستعلاء الدينى تجاه المخالف بترسيخ مفاهيم «هجرة المجتمع الجاهلي» وصولاً إلى تكفير النظام الناصرى القومى والخروج عليه بالسلاح، فصار تيمية جميع التنظيمات المسلحة التى اختطفت هوية الأمة نحو التكفير والعنف وقتال مؤسسات الدول وجيوشها والمفاصلة والحرب المعلنة بين حملة نموذج «الدولة الإسلامية» مقابل الدولة الوطنية القومية.
قطب يمنح جميع المسلمين حق شن الحروب المطلقة لخدمة قضايا إطلاقية دون اعتبار لموازين القوى ودعا لحرب «تحرير البشرية»، فمن يخوض تلك الحروب ومن يقرر خوضها؟ هل هم قادة التنظيمات بناء على عاطفة انفعالية مفتقرة للبعد الإستراتيجى والتخصص؟ أم الدول بما تمتلكه من مؤسسات وجيوش ومراكز بحثية وخبراء وأجهزة ووزارات لديها المقدرة على ضبط المسار والعمل بواقعية وعقلانية وتحديد الوجهة التى تحقق المصالح، حيث تعى متى تقاتل ومدى جاهزيتها للقتال ومتى تجنح للسلم عندما تفتقد المقدرة على خوض الحرب فى مرحلة ما؟ وإذا قامت الحرب فما نتائجها وما رؤية الخبراء المتخصصين فى تكاليفها وهل اقتصاديات الدول قادرة على تحملها أم ستنهكها وتفلسها؟ وهل أعلنت لصالح الأمة والأوطان أم كانت موظفة لمصالح إحدى القوى العظمى؟
بعيداً عن الجدل الدائر حالياً – وقد ذكر الإمام الأكبر أنه فى كلمته ضم السلفيين إلى أهل السنة - فمعروف للجميع من هم أهل السنة ومجهودات الرموز السلفية التجديدية الإصلاحية ممن لو كانوا معنا اليوم لتبرأوا من تصورات وإسقاطات ومواقف كثير ممن يدعون الانتماء للسلفية، لذا ظهر استغلال البعض للحدث من زاوية التوظيف السياسى وانتصاراً لمسارات سياسية بعينها أكثر منه إنصافاً لرؤية منهجية شاملة متجردة، وهذا واضح فى رد القرضاوى والدكتور ياسر برهامى.
المؤتمر طالب بمواقف عملية لتفويت الفرصة على الجماعات الإرهابية ولتصويب الانحراف الذى طال مفهوم أهل السنة والجماعة إثر محاولات اختطاف المتطرفين لهذا اللقب الشريف، ولإطفاء الحرائق والحروب التى تتخذ من أجساد العرب والمسلمين وأشلائهم فئران تجارب دموية وتشعلها أنظمة استعمارية جديدة، بينما رفع الرافضون للمؤتمر نفس إكليشيهات الجماعات المسلحة بزعم أن بوتين مجرم وأن روسيا الملحدة معادية للإسلام وسفكت دماء المسلمين والعرب!
روسيا التى لم تغادر موقع «صديق العرب» رغم كل ما حدث، - بعكس أمريكا التى لا يقل التحالف معها خطورة عن خصومتها- لم تستعمر يوماً بلداً عربياً، والحكم «الشيوعى الملحد» – كما يصفه الإسلاميون- فضح مؤامرة سايكس - بيكو الأولى سنة 1916م التى مهدت للمشروع الصهيونى ووزعت بلاد المشرق العربى بين بريطانيا وفرنسا، فضلاً عن مساندة العرب فى التحرر من الاستعمار الغربى وصولاً اليوم للإسهام فى فضح وإعاقة سايكس بيكو الثانية بتقسيم المقسم وتفكيك الدول والجيوش، وذكرنا مراراً حتى قبل الاستدارة التركية بسنوات أن مستقبل العرب يتوقف على مدى قدرتهم على خلق علاقات مصالح وتوازن بين علاقتهم مع الولايات المتحدة والغرب من جهة وعلاقتهم بروسيا والمحور الشرقى من جهة أخرى.
المسألة لا تتعلق إذن بقضية الانتماء لأهل السنة من عدمه، بل بالانتماء لمعسكر وحلف سياسى له أهدافه وأجنداته ومصالحه وأدواته فى العمق العربى والإسلامى وكذلك فى الداخل الروسى ومحيطه، ولذلك كان إختيار جروزنى لمؤتمر تحديد الهوية والتبرؤ من الفكر المتطرف والظاهرة الميليشياوية الموظفة سياسياً لهدم الدول، فقوة الشرق ومستقبل وجوده وقوفاً وتحالفاً مع دول وليس جماعات وتنظيمات بمختلف تصنيفاتها، وانتصاراً للدولة الوطنية المدنية لا دولة الطوائف والميليشيات، وتمكيناً للجيوش الوطنية ومؤسسات الدولة.
يتبقى حسم هوية الدول، فما هو مستند وصف أحدها بالملحدة رغم احترام التنوع والحضور الإسلامى الكثيف بها؟ وهل الأخرى «مؤمنة» فقط بسبب دعمها للجماعات والكيانات الانفصالية رغم ما خلقته من فتن وتدمير؟ نحتاج لإجابات حاسمة وفاصلة عن أسئلة الهوية للانعتاق والانطلاق، من نحن ومن هم ومن أنتم؟.