ظاهرتان أراهما على قدر كبير من الأهمية، يستطيع أى متابع للشأن العام رصدهما، دون الحاجة إلى مجهر من أى نوع، الظاهرة الأولى: هى اختفاء اللجان الإلكترونية التى كانت مكلفة بسب ولعن كل من ينتقد الأوضاع، أو حتى يُلَوّح بالانتقاد، واكتفت فقط الآن، من خلال الصفحات الرسمية على مواقع التواصل الاجتماعى، بالترويج لأمر ما، أو الثناء على إجراء ما، أو حتى التهليل لشخص ما، وهو تطور أجده إيجابياً، إلى حد ما، إذا كان ينطلق من تغليب العقل والمنطق فى التعامل مع الأشياء، ولو بنسبة حتى الآن.
الظاهرة الثانية: هى تراجع عمليات التهليل للنظام فى صفوف مؤيديه بنسبة كبيرة، مع بدء الاعتراف فى بعض الأحيان بأن القاطرة لا تسير على الطريق الصحيح، أصبحنا نرى التردد فى الكتابة، كما التردد فى التطبيل، كما التردد فى النفاق، وإن كان لابد فعلى استحياء، نتيجة الأزمات المتعاقبة والمتفاقمة على كل المستويات، الغريب أنهم فيما بينهم يعترفون ويُقرون بأن القادم أسوأ، إلا أنهم لا يستطيعون المجاهرة حتى الآن، لأسباب متفاوتة، بعضها يعود إلى منح مزيد من الوقت للنظام، والبعض الآخر خجلاً من المحيطين، الذين قد يصل بهم رد الفعل إلى التشفى، والعياذ بالله.
فى كل الأحوال، نحن أمام تطور مهم، سواء على صعيد النظام ذاته، أو على صعيد مؤيديه، فى الأول: لم تعد لمثل هذه الممارسات، المتعلقة باللجان الإلكترونية، أى مبرر، خاصة بعد أن أصبحوا مكشوفين للعامة، خاصةً أن الأداء طوال الوقت كان دون المستوى، وفى الثانى: تأتى عملية القفز من المركب، خاصة بين الإعلاميين والكُتَّاب، والتى كانت قد بدأت مبكراً، بين ذوى الألباب أو الضمائر الحية بصفة خاصة، ولم يبق الآن سوى مكسورى الجناح، أو مكسورى العينين، أو هما معاً، وهم من نحن بصددهم، أراهم وقد بدأوا يهيمون على وجوههم فى الشوارع، بل وفى ظلمات الليل، عل وعسى تتلقفهم بعض المراكب القادمة من الشمال أو الجنوب، كما جرت العادة.
بالتأكيد بين هؤلاء من كانوا ينافقون بالاكتساب، أى انطلاقاً مما اكتسبوه من خبرة فى هذا الشأن، وفى التعامل مع كل العصور، وبينهم من كانوا كذلك بالوراثة، لا يستطيعون مقاومة الآفة، وهناك أيضاً من كانوا يؤمنون بالنظام أو بالتجربة بحق، أو نكاية فى التجارب السابقة، إلا أننا فى كل الأحوال أمام شتات من الداعمين للنظام، أو من الذين كانوا كذلك حتى وقت قريب، لا يجب أبداً تجاهلهم، أو التفريط فيهم بهذا الشكل المخزى، فليس من السهل إعادة إنتاج هؤلاء، أو حتى أشباههم.
شاءت الظروف أن أشهد إحدى سهرات الولولة بين هؤلاء وأولئك، فيما يشبه المنتدى الثقافى، فى سهرة منزلية لدى أحد الأصدقاء، لن أعاودها مرة أخرى لأسباب شخصية، بالفعل هم يعيشون حالة نقمة كبيرة جداً، هناك مخاوف من المستقبل، هناك اعتراف بالفشل، هناك إجماع على ذلك، إلا أن هناك أيضاً إخلاصاً للنظام لدى البعض، وإخلاصاً للوطن لدى البعض الآخر، بالتأكيد الفارق كبير جداً، إلا أننا فى كل الأحوال أمام أشخاص ذوى حيثية، من تخصصات مختلفة، يبحثون عن وسيلة للخروج من المأزق الراهن، مأزق مصر، الذى تم التعبير عنه، بـ(الحيطة السد) التى تسبب فيها النظام.
كل ما يشغل هؤلاء الآن هو كيفية الوصول إلى القيادة السياسية، كيفية توصيل الرسالة، كيفية التحذير من القادم، كيفية توضيح بعض النقاط التى يمكن أن تكون غامضة، من بينها: ضرورة الاعتماد على أهل الخبرة، حتى يمكن أن تنجو السفينة، أو يسير القطار على الطريق الصحيح، ضرورة وضع ضوابط موضوعية لاختيار القيادات فى كل مكان، ضرورة التصدى للفساد، اقتراحات للنهوض بالاقتصاد، اقتراحات لمواجهة البطالة، اقتراحات لضبط انفلات الأسعار، أخرى لضبط العملة المحلية، إلى غير ذلك من الملاحظات والاجتهادات.
بصفة شخصية، أراها تصورات غير مجدية للنهوض من هذه العثرة لعدة أسباب، أهمها: أن هذه الأمور بالتأكيد لا تخفى على القيادة السياسية، أى ليست فى حاجة إلى تذكِرة، أو هكذا يجب أن تكون، كما تساورنى بعض الريبة فى طريقة اتخاذ القرار، بما لا يتوافق مع دولة مؤسسات، إضافة إلى هيمنة أصحاب المصالح على الأوضاع ككل، مما يجعل هناك صعوبة فى تغيير عقيدة بعينها، تميل بطبيعتها إلى هذه المؤسسة أو تلك، إلا أنه فى الوقت نفسه أجد من الضرورة الاستماع إلى هؤلاء، أبناء النظام أولاً وأخيراً، لا نطلب هنا- لا سمح الله- الاستماع إلى من هناك شكوك فى إيمانهم بالنظام، أو حتى إلى المتشائمين أمثالنا، الذين لا يعولون على السياسات الحالية.
فقط نحن ندعو إلى الاستماع للرعية بشكل عام، الالتقاء بأصحاب الرؤى، ما بالنا إذا كانوا من المريدين، من المهم أن نتخلص من عقيدة الفهم فى كل شىء، والإفتاء فى أى شىء، هناك من لديهم دراسات فى مجالات محددة، حصلت على ما حصلت من التعب والجهد، هناك من لديهم أبحاث فى تخصصات بعينها، لا تجد من يهتم بها، لدينا من الأساتذة والخبراء الكثير والكثير، ممن لا يستمع إليهم أحد، هو نداء إلى ذوى الشأن، إلى أولى الأمر، لنعترف بالفشل، لا ضير فى ذلك، لنستمع إلى هؤلاء وأولئك، ليست هناك مشكلة فى ذلك أبداً، قد تكون بداية الإصلاح، إذا كانت هناك الإرادة، حتى لا تصبح تيتانيك نتيجة طبيعية.