الوطن
ناجح ابراهيم
من طه حسين إلى «هوفمان».. مشاعرهم فى الحج
سطر السفير الألمانى الأسبق فى المغرب والمفكر الإسلامى «مراد هوفمان» رحلته المباركة للحج فى كتابه الرائع «الطريق إلى مكة» بطريقة السرد التى دأب عليها كل كتاب السير الحجازية الذين دونوا رحلاتهم إلى بيت الله الحرام.

لقد كانت هذه الرحلة فاصلة فى إيمان ويقين ذلك المفكر العظيم الذى أقبل على الإسلام ودخل فيه بعد دراسة متأنية متأملة، فحينما لبس ملابس الإحرام لأول مرة استوقفه بياضها الناصع وخلوها من أية ألوان أو زينة أو نقوش أو خياطة، فأدرك أن هذه الملابس الموحدة تعنى أن البشر كلهم سواء أمام الله دون النظر للون أو جنس أو عرق، وترمز أيضاً إلى يوم القيامة «فلقد كنا نبدو كمن قام من الموت ولا يزال يرتدى كفنه، بل إن كثيراً من الحجاج يحتفظون بملابس الإحرام كأكفان لهم».

وحينما وصل «هوفمان» إلى الكعبة قال: «عبرنا من النفق فإذا بنا أمام أقدم معابد التوحيد فى الأزمنة كلها، إنها الكعبة المشرفة التى يقصدها الموحدون المؤمنون فى الأزمنة كلها، حيث تسكب عندها العبرات».

وعندما شرب من ماء زمزم شعر بالانتعاش وعقد العزم على حمل عشرين لتراً منه إلى الرباط ليرتشف منه الأصدقاء والخدم رشفات تسعدهم وتشفيهم، وإذا به يصف ماء زمزم بوصف مؤثر جداً «كأن هذا الماء يماثل الذهب فى قيمته وهو يحقق التواصل بينهم وبين مكة مادياً عبر هذا الماء».

وعندما وصل إلى مقام إبراهيم هدأت سريرته وسكنت جوارحه وطاب له المقام هناك حتى تمنى على حد قوله «لو قضى عمره كله فى هذا المكان».

وعندما ذهب لزيارة قبر الرسول الكريم وصاحبيه العظيمين أبى بكر وعمر قال: «إن الوجود فى هذا المكان هزنى من الأعماق وبعض الحجاج المصاحبين لى أجهشوا ببكاء حار».

وعندما ذهب إلى البقيع وموطن شهداء أُحد هاجت مشاعره وتذكر عبر مرافقيه والمترجمين ذكرى غزوة أحد، فأجهش بالبكاء تأثراً بسيرة هؤلاء العظام.

لقد كانت رحلة هوفمان للحج عجيبة ورائعة أشبه برحلته للإسلام، التى بدأت بتعرضه أيام شبابه لحادث بشع نجا منه بأعجوبة، فقال له الطبيب الألمانى: مثل هذا الحادث لا ينجو منه أحد، ولعل الله يدخر لك شيئاً خاصاً يا عزيزى، وصدق حدس الطبيب، فقد ادخر الله له الإسلام وادخره لخدمته.

رحلة الحج هى أعظم رحلة إيمانية تجلو القلب وتنفض غبار المعاصى والشهوات عن القلوب والشبهات عن العقول.

إنها الرحلة إلى الله، فهى أشبه برحلة البعث والقدوم على الله وحيداً فريداً دون مال ولا جاه ولا سند ولا ظهير.

لقد وقف الشاعر الكبير فاروق جويدة عند الروضة المشرفة فانعقد لسانه وفاضت عبراته، ولم يملك سوى التمنى أن تكون خاتمته هناك على أرض النبوة فهتف قلبه بكلمات رقراقة رائعة: -

ماذا أقول أمام بابك سيدى *** سكت الكلام وفاض فى عبراتى

يا رب فلتجعل نهاية رحلتى *** عند الحبيـب وأن يراه رفاتى

يوماً حلمت بأن أراه حقيقة *** يا ليتنى ألقاه عند مماتـى

أما الأديب والشاعر عزيز أباظة فقد حج بعد وفاة زوجته مباشرة ليخفف عن نفسه ويدعو لها، فإذا به يبكيها فى عرفات حينما شعر بالوحدة فأنشد أبياتاً من أروع الأبيات:-

ذكرتك يوم النفر والدمع ساجم *** على عرفات والنزاع غرام

وأنكر أصحابى بكائى ولوعتى *** وقالوا: أتبكيها وأنت حرام

بكيت لها إذ لم تقف موقف الرضا *** على عرفات والحجيج قيام

أما عبدالوهاب مطاوع فقد سار على قدميه فى الحج طائفاً حول الكعبة وساعياً بين الصفا والمروة قرابة 9 كيلومترات، فقال «كيف ذلك وأنا لا أستطيع السير 500م دون أن ألهث وأتعب؟» إنها الطاقة الإيمانية التى تنبعث فى هذه الأماكن المشرفة فتضخ الحياة فى كل خلية من خلايا البدن فينسى العبد آلامه ومتاعبه وأورامه وسرطانه، وتتنزل عليه بركات السماء من كل حدب وصوب.

ولما رأى «مطاوع» الكعبة هاجت مشاعره وقال لنفسه «لقد فات وقت الإنكار، وحل وقت اللجوء إلى الله والتوبة الكاملة».

وهذا «طه حسين» الذى اصطدم مع الأزهر فى بداية حياته وأخطأ أخطاءً قاتلة فى كتابه «الشعر الجاهلى» الذى ألفه أيام شبابه وبعد عودته من فرنسا، إذا بـ«طه حسين» يتناول التراب عند الحديبية ويقبله لأن الرسول «صلى الله عليه وسلم» مشى عليه، حتى إنه سئل: هل أنت عميد الأدب العربى؟ فقال فى تواضع: «كلا».

لقد تأثر «طه حسين» بالاستقبال الحافل الذى استقبل به رسمياً وشعبياً فى المملكة، وكان على رأس مستقبليه الملك سعود بن عبدالعزيز، وقد استقبله الشيخ الشعراوى بذكائه النادر متغاضياً عن خلافه مع الأزهر مما طيب نفسه وأزال كثيراً من الجفوة بينه وبين علماء الأزهر.

وقد عبر طه حسين عن شعوره عند زيادة قبر النبى أنه «كالغريب الذى عاد لموطنه بعد غياب طويل»، وحينما سئل هناك عن الشخصية التى استهوته أجاب: محمد رسول الله ثم عمر بن الخطاب ثم على بن أبى طالب.

هكذا تفعل هذه الرحلة المباركة بركب الحجيج المبارك، تصفى قلوبهم، تزيل الدرن من أنفسهم، تلغى الكراهية والأحقاد والأطماع، تعرفهم بحقيقة أنفسهم، وتعرفهم بالله حقاً، فمن عرف نفسه بالفقر والحاجة والعوز والضعف والهوان والعبودية، وعرف ربه الغنى القوى الكريم الرحيم الودود الغفور الذى لا تنفذ خزائنه، من عرف ذلك استقامت طريقته، والحج هو أعظم وسيلة لذلك، لا حرمنا الله من بركات هذه الرحلة.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف