الأهرام
احمد عبد المعطى حجازى
أبوحنيفة فارسى.. والشافعى عربى!
أتحدث اليوم من جديد عن الإسلام الأوروبى لأوضح ما قلته فى حديث الأربعاء الماضى وأستكمله بما يمكن أن أقدمه وأذكر
به من حقائق وشهادات ارجو أن يتسع لها حديث اليوم الذى أتوقع ألا يقتصر على الإسلام فى أوروبا، وإنما سيتطرق بالضرورة إلى العناصر المحليةالتى لابد أن يتسع لها صدر الإسلام فى كل بلاد العالم ويتحاور معها ليتوطن فى البلد الذى يدخله ويكتسب جنسيته ويعبر عن شخصيته.

وأبدأ فأذكر بأن الإسلام مثله مثل بقية الديانات والفلسفات لم يكن فى يوم من الأيام مذهبا واحدا. وكما تتعدد الكنائس فى المسيحية وتنتسب كل منها للبلد الذى تقوم فيه، فالكنيسة فى مصر قبطية أى مصرية، وفى سوريا سريانية، وفى القسطنطينية رومية، تتعدد المذاهب فى الإسلام الذى نستطيع فى مصر أن ننسبه لمصر فنتحدث عن إسلام مصرى، وفى إيران عن إسلام إيراني، كما نستطيع أن نتحدث عن إسلام أوروبى متحقق أو هو فى طريقه لأن يتحقق.

ورجال الدين عندنا وعند غيرنا لا يحبون نسبة الإسلام للبلد أو للشعب الذى اعتنقه، ويفضلون نسبته للمصادر أو المراجع التى اعتمدوا عليها فى فهمه وتفسيره، فالذين اعتمدوا على ما أثر عن النبى يوصفون بأنهم أهل السنة ويوصف إسلامهم بأنه الإسلام السني. أما الذين اعتمدوا على اجتهادات أئمتهم الذين تشيعوا لعلى بن أبى طالب فهم الشيعة وإسلامهم هو الإسلام الشيعي.

غير أننا نرى أن السنة فى مصر يختلفون عن السنة فى الجزيرة العربية اختلافا واضحا، وإن كان السلفيون الذين نبعوا من الهزائم التى منينا بها فى النصف الأخير من القرن الماضى يقلدون الوهابيين ويحاولون إعادتنا إلى الزمن الذى كنا فيه جميعا ذميين! ونرى أن شيعة اليمن الزيدية يختلفون عن شيعة العراق وإيران. ونرى بعد ذلك أن المذهب الواحد يتطور فى البلد الواحد من عصر إلى عصر، وحتى من فقيه إلى فقيه، الإمام محمد عبده سنى أزهرى وشتان ما بينه وبين شيوخ الأزهر الذين عاصروه. ونحن نفهم الدين فهما أفضل ونتمثل روحه ونكشف عن جوهره فى ضوء الظروف التى نمر بها وما تطرحه علينا وعلى الدين من أسئلة نجتهد فى الإجابة عنها فيتجدد الدين ويزداد حياة وحضورا.

الإسلام عقائد ثابتة ومقاصد وغايات تختلف صورها وتتطور بتطور الظروف والأوقات. فى الماضى كان الإسلام لا يقوم إلا بدولة تتبناه وتدافع عنه، والآن يفرض علينا الإسلام أن نفصل بينه وبين الدولة، لأن الدولة الدينية طغيان يتستر بالدين فيفسد الدين ويفسد الدنيا، ولهذا سقطت الدول والامبراطوريات الدينية وقامت بدلا منها الدول الوطنية التى لا تكون وطنية ولا تكون ديمقراطية إلا إذا كانت علمانية يرفرف عليها الشعار الذى رفرف على مصر فى ثورة 1919 وهو «الدين لله والوطن للجميع». فالجميع حكام، والجميع محكومون. وهذه هى الديمقراطية.

ونعود بعد هذه الاستطرادات إلى موضوعنا الأول، وهو تعدد المذاهب الدينية بتعدد البلاد وتوالى العصور. نعود لنقول إن الإسلام منذ ظهر خضع لهذا القانون الذى جعله الله شرطا للتواصل والتعارف «وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا». نحن نختلف لنأتلف، ونتعدد لنتوحد.

وقد رأينا أن الخلاف على من يتولى إمارة المسلمين بعد وفاة الرسول دب بين المهاجرين والأنصار والرسول لم يدفن بعد، ثم دب بين عثمان والذين ثاروا عليه وقتلوه. ثم دب بين على والأمويين من ناحية، وبينه وبين الذين خرجوا عليه من ناحية أخري. ثم دب بين العرب والفرس وغيرهم من الشعوب التى اعتنقت الإسلام لكنها وجدت نفسها فى أوضاع سياسية واجتماعية متدنية نشأت فيها حركة مناهضة للعرب عرفت فى التاريخ باسم الشعوبية، واشتعلت ثورات منها ثورة الزنوج المستعبدين فى جنوب العراق، وثورة الأقباط فى أيام المأمون التى بدأت فى شمال الدلتا وانتشرت فى مصر حتى اضطر المأمون للمجيء بنفسه لإخمادها.

فإذا كانت الصراعات بين العرب بعضهم وبعض وبينهم وبين الشعوب المغلوبة هى التى اشعلت هذه الفتن فقد تحولت هذه الصراعات إلى فتاوى وأحاديث وروايات وتفسيرات تأسست عليها الفرق والمذاهب التى انتشرت فى دولة الخلافة وتوطنت فى اقاليمها المختلفة وتأثرت بما وجدته فيها من ثقافات وما وقع فيها من أحداث وتطورات أسهمت كلها فى أن تطبع الإسلام بطابع البلد الذى اعتنقه، فالإسلام فى الجزيرة العربية، كما أشرت من قبل له ملامحه التى تميزه عن الإسلام فى إيران وفى مصر. وفقه الإمام الفارسى أبى حنيفة غير فقه الأئمة العرب مالك، والشافعي، وابن حنبل.

حين يطرح على هؤلاء الأئمة سؤال عن لغة الصلاة، هل تجوز صلاة المسلم غير العربى بلغته؟ فكيف يجيبون؟

يجيب أبوحنيفة بأن من حق المسلم الفارسى أن يقرأ الفاتحة فى الصلاة بلغته الفارسية إذا لم يكن يعرف العربية، أما الشافعى المعتز بنسبه العربى فيرى أن اللغة العربية شرط لصحة الصلاة، وأن أى خطأ يقع فى القراءة أو فى ترتيب الآيات يفسدها. ولاشك فى أن التراث الفارسى السابق على الإسلام كان له تأثيره فى مذهب أبى حنيفة الذى كان للعقل والرأى فيه دور أساسي، على حين كانت أقوال الرسول وأفعاله هى المرجع الذى اعتمد عليه مالك وابن حنبل، وفى هذا الضوء نستطيع أن نعرف مصادر التنوع والغنى اللذين عرفتهما الحضارة الإسلامية، فى بلاد ولم تعرفهما فى بلاد أخري.

الفلسفة الإسلامية التى أجابت عن أسئلة لم تكن النصوص وحدها تجيب عنها وبها استطاع الإسلام أن يخاطب العقل البشرى فى أى مكان، والتصوف الذى اتسعت به حدود المعرفة وأصبح به الدين حبا يجتمع فيه كل البشر ـ أقول إن الفلسفة والتصوف لم يكن مستطاعا أن يظهرا فى وطن الإسلام الأول وهو مدن الحجاز التى اختصت بتوفير النصوص الأولى القرآن والسنة النبوية ـ وتركت للبلاد الأخرى أن تفسرها وتحولها إلى علوم وأفكار ومذاهب، وهو الدور الذى وجد فى البلاد المفتوحة قدرات وأدوات ساعدت على ادائه، علماء، ومفكرين، ومترجمين هنودا، وفرسا، وأرواما، ومصريين مسيحيين، ويهودا، ومجوسا، من الهند والسند، وحران، والإسكندرية، والقيروان، وقرطبة... هذه المدن وهذه الديانات وهذه اللغات التى كان لابد أن تجتمع وتتحاور لتتشكل منها حضارة الإسلام الجامعة.

وللحديث بقية
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف