عبد المنعم سعيد
نظرة متفائلة الى الاقتصاد المصرى
من حق كثيرين أن يستبعدوا التفاؤل أو التشاؤم عند النظر لأحوال البلاد. ولكن في بعض الأحيان فان كثرة الأنباء
السيئة تجعل من «التشاؤم» نتيجة متوقعة لأنها مع تراكمها تخلق حالة من اليأس لا تساعد كثيرا في الخروج من واقع تعيس. النتيجة تكون نظرة أحادية للحالة الاقتصادية، ولن يختلف أحد علي أن الاقتصاد المصري يمر بمرحلة صعبة حيث العجز في موازين المدفوعات والموازنة العامة، ومعدلات التضخم والبطالة، والتدهور الكبير في سعر العملة الوطنية فضلا عن تعدد أسعارها؛ وزد علي ذلك نسب الفقر، والأمية، ومعهما الاتفاق مع صندوق النقد الدولي الذي لا يحدث عادة الا عندما يكون المريض في حاجة الي عملية جراحية تدفعه دفعا للقيام بالاصلاح الذي لا بد منه.
كل ذلك ينبغي له ألا يزيد جرعة «التشاؤم» عن حدها، فبداية الاصلاح الجاد هو أولى الخطوات نحو العلاج اللازم والذي طال أمد تأجيله والهروب منه، وذلك في حد ذاته عمل ايجابي. وما لا يقل أهمية عن ذلك هو أن نضع الأمور في حجمها الصحيح، فمن ناحية فان الأحوال في مصر رغم تراجعها لم تصل الي المستوي الذي وصلت اليه في اليونان مثلا في كل المؤشرات المشار إليها، أو في دول أخري قريبة. ومن ناحية أخري فان الاقتصاد المصري ليس قزما رغم كل الظروف الصعبة التي مررنا بها منذ عهد الثورات، فالناتج المحلي الاجمالي المصري يبلغ 330 مليار دولار، وذلك يضعنا في المكانة 36 بين الاقتصادات العالمية. مثل ذلك ربما لا يكون كثيرا إذا ما أخذنا عدد السكان (92 مليونا) في الحسبان، ولكن اذا ما حسبنا حجم الاقتصاد بما هو معروف بالقدرة الشرائية للدولار، فان الحجم الحقيقي للناتج المحلي الاجمالي المصري سوف يتعدي تريليون دولار (والمكانة ترتفع الي 24). فاذا ما قمنا بحساب كل المؤشرات السابقة نسبة الي ذلك فان حالة الاقتصاد المصري تكون أفضل مما تبدو عليه استنادا الي القيمة الاسمية المشار اليها.
هذه ليست لعبة رقمية لرفع الروح المعنوية المصرية، ولكنها اظهار للقدرات الاقتصادية المتاحة خاصة وأنها لا تضم القطاع غير الرسمي الذي يقدره المختصون بما يساوي 35% علي الأقل من الاقتصاد الرسمي. أكثر من ذلك أن جزءا كبيرا من تراجع معدلاتنا يعود الي أن القطاعات الانتاجية المصرية لا تعمل بكامل طاقتها، ومن ثم فان عودتها الي كامل عنفوانها سوف ينقلنا نقلة كيفية الي الأمم. ولو أن الحكومة تعطي لهذه المهمة كامل طاقتها لحدثت نقلة كيفية الي الأمام في مؤشرات الاقتصاد المصري. وهناك بالاضافة الي ذلك ليس المشروعات الجاري تنفيذها حاليا، أن الحظ يبدو أنه بدأ يبتسم لنا أخيرا عندما بدأت بشائر استغلال الثروات الطبيعية في منطقة شرق البحر الأبيض المتوسط.
والمسألة ببساطة أن شمال مصر المطل علي شرق البحر الأبيض المتوسط يبشر بنتائج اقتصادية مبهرة تحتاج لكل الحكمة والخبرة التي تجعلها تدفع الدماء في عروق الاقتصاد المصري. فمنذ ملايين الأعوام كان لتدفق مياه النيل الي البحر المتوسط نتائج جيولوجية مبهرة نجم عنها مخزون هائل من الغاز يقدر بنحو 345 تريليون قدم مكعبة من الغاز (في غرب سيبيريا 643، وفي الربع الخالي بالسعودية 426، و 227 في شرقها، و212 في الخليج وايران والعراق). وقد بدأت شركات النفط في استكشاف الغاز وكانت أولى بشائرها في اسرائيل عام 1999، ثم غزة 2000، وقبرص 2011، ومصر 2015. وبينما توقفت العملية في غزة لأسباب معروفة، فإنها استمرت في اسرائيل حتي بات حجم المخزون الحالي نحو 28 تريليون قدم مكعبة، وقبرص 7، ومصر 30.
مصر تدخل الي هذا المجال ومعها عدد من المزايا: أولاها أن لديها أكبر السواحل علي منطقة شرق البحر الأبيض، ومن ثم أكثر المناطق الاقتصادية اتساعا وغني بالاحتمالات. وثانيتها أن اكتشافات البحر المتوسط مكملة لاكتشافات أخري جارية بالفعل داخل الدلتا وفي غربها أيضا، وثالثتها أن مصر لديها مصنعان لتسييل الغاز، ومن ثم خبرة فنية وتجارية. ورابعتها أن مصر لديها أكبر شبكة في المنطقة لتوزيع الغاز كما أن لديها بالفعل اتفاقيات مع عدد من دول المنطقة والخارج لتوصيل الغاز اليها يمكنها أن تنقل الغاز الي مصر أيضا. وخامستها أن مصر هي أكبر مستهلك للغاز في المنطقة، و 85% من محطات الطاقة فيها، وكذلك الكثير من مصانعها، تعمل بالغاز. وسادستها أنه نتيجة التوترات الجارية في أوروبا حول أوكرانيا فان الدول الأوروبية ترغب في تنويع مصادرها من الغاز بدلا من حالة الاحتكار الروسية الجارية، ويعتبر غاز شرق البحر المتوسط الأقرب والأسرع، والأرجح الأقل ثمنا.
النتيجة هي أن مصر مع عام 2020، وربما قبل ذلك، يمكنها الاكتفاء ذاتيا من مصادر الطاقة بما فيها القدرة علي تشغيل مصانعها بكامل طاقتها. وفوق ذلك فان مصر هي الأكثر جاهزية لكي تكون مركزا للطاقة يعطيها مزايا تجارية كبيرة اذا ما صارت نقطة تصدير الغاز السعودي الي الأسواق الأوروبية. ما نحتاجه هو استكمال شبكة ترسيم الحدود البحرية التي وقعتها مصر مع اليونان وقبرص والسعودية باتفاق آخر مع لبنان واسرائيل مع الوساطة بين هذه الأخيرة والسلطة الوطنية الفلسطينية لكي تعود شركات النفط لاستغلال الغاز الفلسطيني. الأمر كله ربما يحتاج الي مبادرة مصرية دبلوماسية واسعة لتنظيم المسألة كلها المتعلقة بانتاج الغاز وتوزيعه تصديرا واستيرادا، فضلا عن تصنيعه، تأخذ مصر فيها نصيبها المستحق.