في معركة الحياة الدنيا ومشاكلها التي تسود الأرجاء وترهق الأعصاب وفي زحام الحياة والناس يلهثون وراء مآربهم القريبة والبعيدة حبا في الشهوات والملذات.
كان هناك أشخاص آخرون يخلصون بأنفسهم بعيدا ويصغون الي نداء آخر يجيء من وراء القرون ويتردد صداه علي اختلاف الليل والنهار انه نداء لأمة محمد رسول الله صلي الله عليه وسلم نداء اختصوا به دون الأمم الأخري انه نداء قديم منذ أبي الأنبياء ابراهيم أول من أعلنه وصدع بأمر الله حين قال تعالي "واذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلي كل ضامر يأتين من كل فج عميق".
وهذا النداء جديد لأن خاتم الأنبياء محمد بن عبدالله ندب اليه وقاد قوافله ووضع مناسكه بينما رصد الله له من جوائز وربط به من منافع وكان آخر عهده بالجماهير في حجة الوداع.
كلنا نشاهد وفود الحجيج وهي تنطلق صوب البيت العتيق مخلفة وراءها مشاغل الدنيا هاتفة بأصوات خاشعة لبيك اللهم لبيك لا شريك لك لبيك ان الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك.
ان جموع الناس يؤكد ما يجب علي الناس لله سبحانه وتعالي طاعة مطلقة وانقياد تام وذكر وتوحيد.
هل العالم كله يتذوق حلاوة هذه المعاني ويستشعر حلاوتها فما أكثر الغافلين والتائهين عن الله وما أكثر العابدين بغير ما شرع الله وما أكثر المنافقين أن هؤلاء العاصين نغمة شاذة في كون يسبح ربه.
أما الجموع المنطلقة صوب مكة تجأر بالتلبية الذي يشهد لها العالم فاطلبي حين يرفع عقيرته مناجيا ربه ومصدقا أخاه ومقررا أشرف حقيقة في الوجود يتجاوب مع الملكوت الساجد طوعا وكرها.
ما هذا الهتاف الذي يصحب سفر الحجاج وتنقلاتهم بالليل والنهار انه هتاف ينفرد به اتباع محمد وحملة راية التوحيد أما غيرهم فهم بين معطل ومشرك وجاحد منحرف ان هؤلاء لهم هتاف آخر يمثل عبوديتهم للتراب ولما فوق التراب من دنايا وغيرها.
أن حجاج بيت الله انهم يجتمعون في مكان واحد ليترجموا عن وفائهم ويقينهم بالله لتبقي دورات التاريخ متصلة المبني والمعني ولا يمر عام الا واقبلت هذه الوفود من كل فج كأنها الحمائم تنطلق الي أوكارها يحثها الشوق الي مهاد التوحيد.
انظروا الي الوفود القادمة من القارات الخمس علي اختلاف لغاتها والوانها واحوالها يجمعها شعار واحد وتنتظمها عاطفة دينية واحدة وهي تترجم عن ذات نفسها بتلبية تهز الأودية ويتحول ما أضمرته من اخلاص الي هتاف باسم الله وحده ولا ذكر هنا الا الله ولا تعظيم الا له ولا امل الا فيه ولا تعويل الا عليه.
ان المسافات تقاربت بل انعدمت بين ذكر لله يمر بالفؤاد كأنه خاطرة عابرة وبين ذكر لله يدوي كالرعد.
أفواج الحجيج تتدافق الي غايتها لا تبغي شيئا الا رضا الله ولا يعنيها الا الاعلان عن ولائها لله الذي جاءت لتزور بيته في يوم معين من السنة ومكان مخصوص من الأرض تلتقي الوفود المقبلة من المشارق والمغارب تلتقي وفود الرحمن في صحراء عرفة في ملابس لا تصلح للخيلاء ولا مواضع فيها للزينة بل الحجاج شعث غبر تكسوهم ثمة العبودية والافتقار الي الله.
لقد حطوا الرحال هنا ليفرغوا لتمجيد الله وتوحيده وطلب مغفرته ورحمته يوم عرفة فريد في معناه ومظهره لا تسمع فيه الا تأوهات التائبين الخاشعين وضراعة المغتفرين لله انها الانسانية المستجيرة بربها النازلة ساحته أملها في خزائنه التي لا تنفذ وعطفه الذي لا ينتهي ورحمته التي شملت كل عباده.