محمد ابو الفضل
المظلة الواقية للقضية الفلسطينية
التوترات والصراعات التى تحفل بها المنطقة، لم تنجح فى أن تنسى كثيرا من الدول ملف الصراع العربى الإسرائيلي، فمازالت القضية الفلسطينية، تمثل أحد أهم المحاور التى تنخرط فيها جهات إقليمية ودولية، وينظر لها باعتبارها القضية الأم، وأصبح غالبية المعنيين بأزمات المنطقة يبدأون منها أو ينتهون إليها، حتى لو تخيل البعض أن الأزمة السورية فاقت كل الأزمات.
الجهود المصرية والفرنسية والروسية، ودعم أوساط سياسية خلال الأسابيع الماضية، أكد النتيجة السابقة، حيث تسارعت التحركات لضخ دماء جديدة فى عروق عملية التسوية السياسية، التى تصلبت على مدى السنوات المنصرمة، بسبب تفجر أزمات واشتعال حروب، تداخلت فيها الأوراق الإستراتيجية، وجذبت لها دولا عدة، من الشرق والغرب، ناهيك عن قوى أخرى من المنطقة، لديها طموحات لزيادة دورها الإقليمي.
لم تفلح الانشغالات بهموم الأوضاع فى كل من سوريا والعراق وليبيا واليمن، والمخاوف من تنامى دور إبران، فى أن تبتعد دول مختلفة عن القضية الفلسطينية، التى تآكلت أجزاء منها، بفعل سوء تصرفات بعض الحركات والفصائل، واستثمار إسرائيل اللحظة التاريخية التى تراجعت فيها (مؤقتا) القضية على جدول أعمال القوى المؤثرة، جراء الحروب والمناوشات والنتوءات التى خرجت من رحمها، وأفضت إلى واقع قاتم أنذر (ولا يزال) بتغيير خريطة المنطقة، بما يصب فى مصلحة إسرائيل، التى رفضت الانصياع لأى نداءات تصدر بجدية أو على استحياء من دول تدرك الأهمية المركزية للقضية الفلسطينية فى جدار الأمن القومى العربي.
حيال المراوحات المختلفة، والتعقيدات والتشابكات المتباينة فى جميع الصراعات الراهنة، لم تهمل مصر تحديدا القضية، وكانت فى غالبية، إن لم يكن جميع، مناقشاتها مع قوى إقليمية ودولية محل تركيز، وعندما بدأت تلوح فرصة إيجابية، عقب إطلاق فرنسا مبادرتها السياسية الرامية للتسوية بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية، التقطت مصر الخيط، وسعت إلى مده حتى آخره، ليؤدى إلى مفاوضات حقيقية، تقود لدولة فلسطينية قابلة للحياة.
عندما استشعرت تل أبيب جدية المسألة، وأن العواصم الثلاث، القاهرة وباريس ثم موسكو، تتحرك بتناغم ناشدة السلام، بدأت سلسلة من المراوغات لتعطيل هذا الاتجاه، تارة تضع المتطرف أفيجدور ليبرمان على قمة وزارة الحرب، وأخرى تتلكأ بعدم الثقة فى الجانب الفلسطيني، وتعزف على وتر الانقسامات الداخلية، وثالثة تمعن فى الانتهاكات والممارسات الإجرامية فى الأراضى المحتلة، وهكذا بدأت سلسلة من الإجراءات، هدفها وضع العصى بين عجلات التسوية.
الدوائر التى تحركت نحو تهيئة بيئة مواتية لإعادة انطلاق قطار المفاوضات، لم تكن غافلة عن كل هذه الألاعيب، لذلك حاولت تفشيلها، وتطويق إسرائيل من جهات عديدة، لإجبارها على الجلوس حول الطاولة، والاستفادة من الانخراط الأمريكى فى أزمات أخرى، بدت عملية فك شفراتها مستعصية على واشنطن، خاصة أنه معروف أن العام الذى يسبق انتخابات الرئاسة الأمريكية يتحول فيه الرئيس إلى ما يشبه البطة العرجاء، التى تتحرك ببطء، وإن فكرت فى زيادة سرعة خطواتها تتعثر فى منتصف الطريق.
هذه التقديرات لم تكن بعيدة عن ذهن، كل من مصر وفرنسا وروسيا، وداعمين عرب آخرين، لكن نقطة الانطلاق، كانت تتمحور فى مسارين، لابد من تجاوز العقبات التى تتناثر على جانبيهما، هما إسرائيل والسلطة الفلسطينية، بالنسبة للأولى نجحت نسبيا الجهود التى بذلت للتقليل من حججها، وإجبارها على عدم استبعاد فكرة التفاوض، لكن بنيامين نيتانياهو رئيس الحكومة الإسرائيلية سلك طرقا ملتوية، لإجهاض التسوية من داخلها، وفقا لأجندة متدرجة، ساعده فيها الواقع الفلسطينى الأليم، حيث لم يظهر تماسكا مبدئيا يفرض على قوى كثيرة ممارسة أنواع متباينة من الضغوط على إسرائيل، وكلما تعثرت خطة نيتانياهو وجد ما يوفر له دعما جديدا، عن قصد أو بدونه، ليمارس مناوراته.
بالنسبة للثانية، أى السلطة الفلسطينية، تزايدت حدة الخلافات داخلها، وتعمقت الفواصل فى صفوف حركة فتح، وبدأ بعض القيادات يستعد لوراثة الرئيس محمود عباس مبكرا، فى وقت لم تبد فيه حركة حماس تعاونا كاملا لوضع حد للانقسام، وتمانع فى التعاون لإعادة اللحمة بين قطاع غزة والضفة الغربية، وربما تظاهرت أحيانا بالتجاوب مع النداءات التى وجهت لها، لكنها اكتفت بالجانب النظري، ولم تتحول إلى واقع ملموس على الأرض.
المشكلة الأكبر، أن بوادر الاستسلام لإرادة بعض القوى الإقليمية بدأت تتصاعد وتيرتها، وأخذت تخرج من النطاق السرى إلى العلني، واستثمرت حركة حماس، حالة الجشع التى انتابت بعض الدول للتدخل فى الشأن الفلسطيني، وضاعفت من الارتماء فى أحضانها، واستخدمت تركيا وقطر وبالطبع إيران وسائل مختلفة، لدغدغة عقول وقلوب قيادات الحركة، التى لم تبخل عليهم بالتجاوب، كمحاولة لتعويض أوجه النقص والضعف فى جسدها.
بصرف النظر عن الحسابات التى حكمت مقاربات هذه الدول، غير أن الجميع تحفظ وتمنع عن الدوران فى فلك الميل نحو التسوية السياسية، وكان الانحياز واضحا إلى تعطيلها وفرملة التوجهات الإيجابية التى يمكن أن تؤدى إلى تحريكها، لذلك التقت إرادة هذا الفريق مع رغبة إسرائيل، فى إبقاء الأمر على ما هو عليه من الانسداد.
اللعبة التى تجيدها حماس منذ فترة، وتقوم على التباديل والتوافيق بين المتناقضات، والانسجام مع جهات ليس من مصلحتها حدوث تقدم فى التسوية، انتقلت إلى بعض قيادات السلطة الفلسطينية، وهو ما عبر عنه الرئيس محمود عباس أخيرا، عندما ألمح إلى رفض ما يمكن وصفه بتدخلات بعض العواصم العربية، القاهرة والرياض وعمان وأبوظبي، أى أعضاء اللجنة الرباعية العربية، المعنية بالتسوية الفلسطينية، الأمر الذى فسر على أنه محاولة للتنصل من المضى قدما نحو السلام، كنوع من المزايدة على فريق الرافضين، أو قفزة فى الهواء تميل إلى تغيير التوجهات إلى دوائر مقابلة، لم تكن راضية عن كثير من تحركاته السنوات الماضية.
مهما تكن حسابات أبومازن، الداخلية والخارجية، التى دفعته إلى الكشف عن امتعاضه من أعضاء اللجنة الرباعية، فهى فى النهاية، وفرت ذريعة لإسرائيل لتأكيد رؤيتها فيما يتعلق بالموقف السلبى من اللقاء الثلاثى فى موسكو، بين أبومازن ونيثتانياهو والرئيس الروسى فلاديمير بوتين، ومنحت تل أبيب فرصة جديدة لتأكيد قناعتها بعدم جدوى مؤتمر باريس المنتظر، وهو ما يفرض على الدول المعنية إعادة رص الأوراق مرة أخرى، بصورة تعيد أبومازن إلى الدائرة العربية الواسعة التى مهما جرت خلافات بينها، سوف تبقى المظلة الواقية للقضية الفلسطينية.