المساء
محمد جبريل
ع البحري .. عزت إبراهيم.. حالة سكندرية
كنت أحرص علي لقائه في زياراتي للإسكندرية "اقتصرت صلتي بالمدينة - للأسف - علي الزيارات المتقاربة أحيانا. المتباعدة في معظم الأحيان" أميل من شارع سعد زغلول إلي شارع شكور. اصعد البناية المزدحمة بورش الحرفيين: أصوات الدق والنشر وتلاوات القرآن والنداءات واختلاط الأغنيات الشعبية. وروائح الفول والطعمية وأم الخلول.
في الطابق الثاني. أخترق الردهة الطويلة. علي جانبيها غرف متلاصقة. يشغلها ترزي واستورجي وورشة أحذية وحلاق ومخزن للأقمشة وحجرات أخري. تمتد إلي نهاية الردهة. تطل نوافذها علي شارع شكور. تتوسط الباب المفتوح إلي اليسار عبارة "اتيليه الفنان عزت إبراهيم".
الكنبة المعدنية. فوقها مرتبة باستطالتها - تعاني ازدحام الحجرة - الاتيليه - بالبويات والألوان والأقمشة والأخشاب وعبوات الأسمنت والجبس والصلصال والاستندات والطاولات والكراسي المحطمة. وبقايا التماثيل واللوحات المتساندة فوق بعضها علي الجدران.
لا أذكر كيف ولا متي بدأت صداقتنا. وإن قدم أحدنا إلي الآخر صديقا هو الشاعر الراحل عبدالله أبو رواش. هل كان أول لقاءاتنا في بيت أبو رواش. أو في اتيليه عزت إبراهيم. أو في مكان ثالث لا أذكره؟ لأن غالبية الفنانين التشكيليين - مثل كل الأدباء - ينفقون علي إبداعهم. ولا ينتظرون المقابل المادي - المقابل المعنوي وارد! - فقد كان عزت إبراهيم ينفق علي نفسه من رسم اللوحات المنقولة من الكارت بوستال. وتصميم الاعلانات. واستكمال ديكورات المحال بما يشير به المهندس المسئول. أدرك الرجل - من البداية - أن اللوحات التي سيضمها معرض. بأمل أن يبيع منها لوحتين أو ثلاثا. لن تدر عائدا يضمن المستوي الأدني من الحياة. من هنا. كان اتجاهه إلي الفن التجاري. هل ثمة تسمية أخري؟!.. لم اسأل عزت إبراهيم عن حياته الخاصة. ما إذا كان متزوجا أم أنه جعل حياته للفن. دلتني الشواهد أن الشقة المطلة علي شارع شكور كانت تجمع بين مكان الاقامة والمرسم في آن. لم يكن يغادر الشقة - المفتوحة دوما - إلا لمشاوير عاجلة. ويعود. يشاركه حياته شاب - نسيت اسمه - يساعده في إعداد الطعام الساخن والشاي. أو يشتري ساندوتشات الفول والطعمية وأطباق المكرونة من المحال القريبة. ويستقبل الزوار إن حاول عزت الاختلاء بنفسه. للنوم أو للاسترخاء.
خطرت لعزت إبراهيم فكرة السفر إلي القاهرة. تلك هي الفكرة التي تثبت في أذهان كل المبدعين البعيدين عن العاصمة. ثمة من يستجيب إلي نداء النداهة. ومن يتجاهل النداء. ويكتفي بهامش - يتوقعه! - في حياتنا الإبداعية والفكرية. ونوع ثالث يجمع بين العيش في مسقط الرأس. والانطلاق بالفكر والإبداع إلي المستوي الوطني. والقومي. وما هو أبعد. ذلك ما أقدم عليه أدهم وانلي وسيف وانلي ومحمد محمد حسين ويوسف عز الدين عيسي ومحمد زكي العشماوي ومحمد زكريا عناني ومحمد الصاوي وكامل حسني وبدارة وعزت عوض الله وعشرات غيرهم.. ذلك ما أقدم عليه كذلك عزت إبراهيم. لم يتصور ابتعاده عن الاسكندرية. جعل البحر والبيئة والعادات والتقاليد محورا لفنه. وحرص ألا يقصر رؤيته ولا تناوله الفني علي دائرة محدودة. إنما انطلق في كل إبداعه إلي الرفيع في مستوي الفن. وفي توقع التلقي... ما كان يؤلمني. تلك النظرة الحزينة في عينيه. والإحساس الذي أشعر به. وان لم يحاول التحدث عنه. بأنه لم يحصل علي المكانة التي يستحقها.
كانت لوحاته وتماثيله تنطق بجدارته الفنية. لم يحدثني عن المرارة التي لابد أنها كانت تملأ فمه. لكن عينيه عكستا - دوما - ما هو أقسي من المرارة.
كان عزت إبراهيم "حالة سكندرية". مفرداتها: البحر والصيادون والأسماك والمراكب والجوامع والموالد وحلقات الذكر وسيد درويش والملاءات اللف وغيرها مما تحويه بيئة المدينة. كان يبين عن ذلك العالم المتفرد في الرسائل التي كانت تصلني منه. يضيف إلي العنوان ملمحا من المدينة. أعرف - دون أن أقلب الرسالة - انه هو صاحبها. اعتدت رسائله. أعرفها من رؤيتي للمظروف. تحت الاسم والعنوان صورة بمعظم مساحة المظروف لقارب. أو صياد بلباسه التقليدي. أو فانوس رمضان. أو بروفيل لسيد درويش الذي عرف أني أحبه.
بالمناسبة. فمن بين ما كنت أعتز به في بيتي تمثال لعزت إبراهيم. بحجم الوجه. لسيد درويش.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف