(١) لم يكن هناك تفكير ولا تخطيط لثورة، ولم تتجاوز المسألة دعوة بعض الشباب إلى تظاهرة يوم ٢٥ يناير، وهو اليوم الذى يوافق احتفال وزارة الداخلية بذكرى عيدها السنوى.. كان هدف التظاهرة هو المطالبة بإيقاف العمل بقانون الطوارئ الذى حكم مبارك البلاد به ٣٠ عاماً.. وأقصى ما كان يمكن المطالبة به هو إقصاء حبيب العادلى وزير الداخلية عن منصبه.. لم يتوقع أحد أن يخرج الشعب فى التظاهرة أصلاً، فضلاً عن أن يخرج بهذا العدد فى ذلك اليوم.. وقد أعلن الإخوان عدم موافقتهم على المشاركة، إلا أن حوالى ٢٥٠٠ شخص من شباب الإخوان شاركوا على مسئوليتهم الخاصة.. وفى جمعة الغضب (٢٨ يناير)، كان خروج الشعب المصرى إلى الميادين والساحات حاشداً، فى القاهرة وغيرها من محافظات الجمهورية.. فى هذا اليوم والأيام التالية له، شارك الإخوان.. وإزاء التجمعات الحاشدة اضطر الراحل عمر سليمان للدعوة إلى حوار، ورغم اتفاق الجميع فى الميدان على أنه لا حوار إلا بعد رحيل مبارك، إلا أن أغلبية القوى السياسية وبعض الرموز الوطنية استجابت بمن فيهم الإخوان.. كان هناك لقاء خاص بين عمر سليمان وممثلى الإخوان (مرسى والكتاتنى)، طلب فيه «سليمان» منهما سحب شباب الإخوان من الميدان، فى مقابل شرعية الجماعة والإفراج عن خيرت الشاطر وحسن مالك، لكن الشباب رفض، وفشلت الصفقة.. سقط عشرات القتلى، وأبلى الإخوان فى واقعة «الجمل» بلاء حسناً شهد به الجميع.. اللافت للنظر أن الجيش انحاز للثورة، إذ أعلن وقوفه إلى جانبها منذ اللحظة الأولى، ولولاه لكان للتاريخ مسار آخر.. وهكذا الجيش المصرى، لا يغرد خارج السرب (أى الشعب)، ولا يتخلى عن مهامه الكبرى فى الحفاظ على مصر، الشعب والوطن.. قيل وقتها إن سبب ترحيبه بالثورة عملية التوريث التى كان يسعى إليها مبارك، والتى أوشكت أن تصل إلى محطتها الأخيرة.. أقول: وهل كان الشعب، أو على الأقل قطاع عريض منه، راضياً بمهزلة التوريث؟
(٢) لا خلاف على أن الشعب المصرى هو الذى قام بالثورة، ولا يستطيع أحد أن يدعى غير ذلك.. هناك بعض ممن يدافعون عن نظام حكم مبارك، يزعمون أن الإدارة الأمريكية هى التى خططت للثورة، لكنه زعم بغير دليل، كما أنه اتهام للشعب بالسذاجة وفقدان الوعى.. إن الإدارة الأمريكية -كما هى العادة- هى من ركب الموجة.. للأسف، لم تكن للشعب قيادة توجهه أو ترشده، ولم يكن لديه تصور عن ماذا يفعل فى هذه الخطوة أو تلك.. كان همه أن يرحل مبارك.. هذا كل ما فى الأمر.. ظل خلال الـ١٨ يوماً يطالب بذلك، لكن ماذا بعد أن يرحل مبارك؟! لا شىء.. هذا هو الشعب المصرى، يعيش يومه فقط، وينتظر ما يأتى به الغد.. قدرته على اقتحام المجهول، والأخذ بزمام المبادأة، يكاد يكون معدوماً.. أثناء تلك الفترة أظهر الشعب أحلى ما عنده من تكافل، وتعاون، وإيثار، وتعايش، وغير ذلك من القيم الجليلة والنبيلة.. لكن هذه الحالة لم تستمر طويلاً.. كان من الممكن للإخوان أن يقودوا، غير أنهم لم يكونوا مؤهلين لذلك، ولم تكن لديهم تصورات واضحة عما يجب أن تكون عليه المرحلة.. فشلوا فى أن يكونوا جزءاً من الجماعة الوطنية، وكانت هذه -وما زالت- هى المشكلة، فالإخوان يريدون أن يعملوا دائماً وحدهم.. يعتقدون أن لديهم المنهج الأمثل، وما على الآخرين إلا أن يسيروا خلفهم.. كان الأنسب هو تشكيل هيئة دستورية تضم ممثلين عن كافة أطراف الجماعة الوطنية لوضع دستور جديد، تماماً كما فعلت تونس.. لكن كيف يتم ذلك فى غياب قيادة واعية، علاوة على أن كل مجموعة لها رأيها وتوجهها الخاص بها؟ من هنا جاء التفكير فى التعديلات الدستورية والاستفتاء عليها فى ١٩ مارس؛ حيث ظهر الانقسام واضحاً؛ فسطاط إسلامى وآخر علمانى(!).. لم يكن لدى الإخوان -والحركة الإسلامية عموماً- من الفهم والوعى أو حتى من الخيال ما يجعلهم يدركون أن وحدة الجماعة الوطنية هى السبيل الوحيد للنهوض فى هذه المرحلة، وفى غيرها.. كانت تجربة الإخوان مع الرئيس الراحل عبدالناصر عام ٥٤، ماثلة فى أذهانهم.. ومن ثم كان لا بد من التفاهم مع الجيش، حيث يتلاقى الاثنان فى خط واحد، فالجيش بطبيعته محافظ، وهو -كمؤسسة- خاضع للضبط والربط والالتزام، وكذلك الإخوان.. ولأن الثورات عادة ما تصحبها فوضى، كما يعلو على سطحها الغوغاء والدهماء والمخربون، فهى ليست مقبولة عند الطرفين.. لقد وقفوا مع الجيش منذ البداية، وغضوا الطرف عن كل ما وقع، حتى وصلوا إلى قمة هرم السلطة!
(٣) عندما قامت ثورة ٢٥ يناير، وتنسم الشعب المصرى عبير الحرية، كان من الواجب على قيادات الجماعة أن تنتهز الفرصة لمراجعة وإعادة النظر فى نظمها ولوائحها الداخلية، وبالتالى تطوير هياكلها الإدارية والتنظيمية وسياساتها وتوجهاتها العامة بما يتناسب مع مناخ الحرية، بل وإعادة تأهيل الإخوان تربوياً ودعوياً، علاوة على إجراء انتخابات حرة ونزيهة وبمعايير صحيحة وسليمة بحيث تؤدى إلى إفراز قيادات جديدة تلائم طبيعة الظروف الجديدة.. إلا أن قيادات الجماعة أعطت ظهرها لهذا كله، كأنها كانت فى سباق مع الزمن، وأنها إذا لم تنتهز الفرصة المتاحة فى هذا التوقيت، فلربما تظل قابعة فى السفح تنتظر أن يمن الله عليها بفرصة أخرى، وهيهات.. لذا أقبلت بكل ما تملك على العمل السياسى الذى استقطب كل جهودها وطاقاتها وأعاقها عن إحداث التغيير المطلوب من ناحية، وأدى إلى مزيد من التدهور والتراجع فى المنظومة القيمية داخلها من ناحية أخرى.. ليس هذا فقط، لكن ما حدث بعد ذلك كان أشد وأنكى.. فقد اتخذت قيادات الجماعة فى البداية قراراً بالمنافسة على ٣٠٪ من مقاعد مجلس الشعب، ثم إذا بها تتنكر لذلك وتنافس على جميع المقاعد! كما أنها أقسمت أيماناً مغلظة أنها لن ترشح أحداً منها لانتخابات الرئاسة، ثم فى مرحلة ثانية قالت إنها سوف ترشح واحداً ذا توجه إسلامى، لكنه ليس من التنظيم، وفى مرحلة ثالثة اتخذت قراراً بترشيح واحد منها وهو خيرت الشاطر.. ومن البديهى والطبيعى أن يؤدى هذا التذبذب إلى فقدان الجماعة للكثير من مصداقيتها أمام الجماهير.. ثم كان عقد اتفاق «فيرمونت» الشهير، الذى لم تلتزم الجماعة ببنوده.. كان واضحاً أنها تحللت من كل عهودها التى أبرمتها مع القوى السياسية والوطنية، الأمر الذى أدى إلى ضعف -إن لم يكن فقدان- الثقة فيها من الجميع.