جمال الجمل
ع . س (حواديت العباسيين-14)
(1)
“بنلف في دواير”… والمشكلة ليست عاطفية كما يقول المغني، لكنها مشكلة سياسية وحضارية، تمتد إلى قرون طويلة من الدوران في الفراغ، ولأنني ملول بطبعي، ومشحون بالرغبة في التجديد، والبحث عن الابتكار والإبداع عند كل شخص، وفي كل مرحلة، فقد آليت على نفسي، تحطيم رتابة الوجود، وكسر الركود، والسعي لتنشيط الكسالى وتثوير الراقدين تحت ظل السكون، لذلك قررت استئناف “حواديت العباسيين”، ليس بغرض المناكفة مع أحد، أو تسريب طاقة الغضب في السخرية من هذا العباسي أو ذاك، ولكن بغرض الاشتباك، وإزالة الصدأ، والقفز على أسوار الجمود والإحباط التي تحاصرنا بداخلها سلطات القهر والإخضاع، وقد فكرت قبل ذلك في نوع من “الكتابة على الكتابة”، أي مناقشة مقالات وآراء بعض الكتاب بغرض دعمها أو نقضها أو توسيع حالة المشاركة حولها، ليس لمجرد التعليق، ولكن كحيلة لضخ الحيوية، وإثراء الحوار، ورأيت أن أجمع كل هذه الأهداف في “حواديت العباسيين” بكل ما يحمله ذلك التحدى من معاني المقاومة، وعدم الرضوخ لمقالات التوجيهات، وإعلام التعبئة، وإملاءات البتاع اللي فوق للعيال بتوعه اللي متوزعين على كل المنافذ والشاشات.
والله المستعان
(2)
قبل سنوات كنت أكتب صفحة أسبوعية في صحيفة من صحف الشرف والمقاومة بعنوان “الكل في واحد”، وكنت أحرر الصفحة باسم مستعار هو “العربي المنسي”، وحينذاك نشرت تنويها في إطار بارز عن مفاجأة في العدد المقبل تتعلق بفتح ملف (ع . س)، وألمحت في عناوين فرعية إلى أن الحرفين قد يرمزان إلى صفة “عميل سري” أو”عراب السلام”، أو “عماء سياسي”، أو إلى أسماء بعينها، كما قد يتبادر إلى الذهن (الآن) بأنهما مجرد اختصار لمصطلح “عباسي” باعتبارهما الحرف الأول من كل مقطع، بل قد يتحمس البعض ويرى أنهما نبوءة مبكرة تشير إلى اسم الرئيس الكامن في الأحلام الغيبية (عبد الفتاح السيسي)، لكن بداية القصة (التي لم أنشرها من قبل) أن الكاتب التطبيعي الراحل “علي سالم” نشر مقالاً في إحدى الصحف الكبيرة، فاحتج عدد كبير من قيادات الصحيفة ومن المحررين أيضا، ما أدى إلى وقف نشر مقالاته، وبعد أقل من أسبوع، نشرت الصحيفة مقالاً للدكتور التطبيعي أيضا “عبد المنعم سعيد”، فعلق أحد القراء الأذكياء على موقع الصحيفة قائلا بغيظ وخفة دم: يعني لازم تبلونا بأي (ع . س) وخلاص؟!
(3)
طبعا اختزال الحروف مجرد طرفة، ففي أحد الأيام تماديت مع صديقي الكاتب اللبناني المتميز “علي الرز” في التندر على أسماء بعض مثقفي السلطة التي تبدأ بالحرفين، حتى فوجئت به في نهاية الدردشة الباسمة يقول ضاحكاً: على فكرة أنا أبويا اسمه سعيد يعني اسمي “علي سعيد الرز”… تفتكر إني كده بقيت (ع . س)؟… لهذا أعتذر مقدما لكل من يبدأ اسمه بالحرفين، وهو بريء من السلطة، وليس بتاع من بتوعها.
(4)
على المستوى المهني والفكري، لا توجد أي حساسية شخصية من الدكتور عبد المنعم سعيد، بل أنني في معظم الأحوال أتابع مقالاته ومقولاته، كما كنت أقرأ أعمال علي سالم المسرحية، وكانت بيننا في فترة من الفترات صداقة ودودة، خاصة الفترة التي حاول فيها تنشيط المسرح في أواسط الثمانينيات، وسعى بنفسه لإنتاج مسرحيته “الكلاب وصلت المطار”، لكن التجربة فشلت ماديا وجماهيريا بشكل محبط، وربما كان ذلك الإحباط هو الذي ساعد على انجراف صاحب “أغنية على الممر” في تيار التطبيع مع الصهاينة، والسقوط في دوامة جماعة كوبنهاجن، وجمعية القاهرة للسلام، التي رعاها عدد من كبار مثقفي اليسار بينهم الدكتور عبد المنعم سعيد، وكنت في تلك الفترة أعمل محررا ثقافياً في صحيفة “الحياة اللندنية”، وكنت أتابع بقلق الجلسة الأسبوعية التي ينظمها مدير المكتب د. عمرو عبد السميع (وهو “ع.س” بشكل أو بآخر) ويجمع فيها عددا من المثقفين الكبار، معظمهم من الباحثين المرموقين في مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، وهي المجموعة التي تحولت إلى رأس حربة لتمرير المشروع الإسرائيلي وتنشيط التطبيع، و”تفكيك عقدة العداء” تحت غطاء نشر الليبرالية مرة، و”ثقافة السلام مرة”، و”التعايش مع الآخر” مرة، حتى صار الحديث عن التطبيع جهارا نهاراً، واستطاع هؤلاء تنظيم المؤتمرات العلنية التي تدعو للتطبيع باعتباره الطريق الوحيد لحل القضية الفلسطينية، وعودة الأرض العربية المحتلة منذ يونيو 1967.
(5)
كانت صفحة “الكل في واحد” التي نشر بها التنويه الخاص بملف (ع.ٍس) هي الصفحة الأخيرة التي توقفت بعدها، لأسباب ليس مجالها الآن، ثم دخلت مصر أجواء الاستقطاب الداخلي وانتخابات أحمد عز، التي انتهت بثورة يناير وما تلاها من تداعيات جرفت كثير من القضايا، وغيرت أجندات الاهتمام لدى الجميع مؤسسات وأفراد، وهكذا دخل ملف (ع.س) إلى الأرشيف الشخصي بكل ما يحمله من معلومات عن الباحث اليساري الذي بدأ نصيرا للقضية الفلسطينية ومعارضا للمشروع الصهيوني وبوادر السلام معه، ومع استكماله لدراسته في أمريكا، وتوليه قسم العلاقات الدولية بمركز الأهرام للدراسات، ارتبط (ع.ٍس) بالمشروع الأمريكي، وأصبح واحدا من أبرز المروجين له في المنطقة، وانضم لزمالة معهد بروكنجز بالولايات المتحدة، ولم يعد يخفي بعد ذلك انبهاره بكل شئ في أمريكا، حتى أنه يمجد انتصاراتها بفخر في كل المجالات من ملاعب السياسة إلى ملاعب كرة القدم، والطريف أنني لم أستطع أن أنسى حتى الآن مقاله المترهل العجيب بعد فوز المنتخب الأمريكي على منتخبنا في كأس العالم للقارات، بعد يومين فقط من هزيمتنا لإيطاليا، والأطرف أن ذلك المقال كان مقاله الأول كرئيس لمجلس إدارة الأهرام، لكنه لم يجد قضية وطنية يكتب فيها غير تأكيده على الانبهار المستمر بأمريكا والدوران في فلكها.
(6)
الأطرف والأطرف من ذلك، أنني عندما شرعت في كتابة هذا المقال لم انتبه لتحويل الكيبورد من اللغة الإنجليزية إلى العربية، ولما كتبت (ع.ٍس) فوجئت أن العنوان المكتوب أمامي على الصفحة هو (u.s) فهل تؤمنون بقوة الرمز والإشارات أم أن المسألة مجرد صدفة لا تخلو من مغزى وغمزة.
(7)
يبقى توضيح لازم، وهو أنني فكرت في هذا المقال بهدف الاشتباك (الثقافي وليس السياسي) مع مقال الدكتور سعيد الأخير بصحيفة “المصري اليوم” عن العاصمة الإدارية الجديدة، وهو الموضوع الذي أعود إليه لاحقا لمناقشة مقترحات (ع.س) الذي يصوغ أفكاره العابرة وكأنها خلاصة الحكمة المتأنية، ويغطي انحيازاته القديمة الصدئة بقشرة براقة من الحداثة الفالصو.
وللحديث بقية