الصباح
كمال الهلباوى
الاتزان والطغيان
تعلمت من جدتى لأبى السيدة زينب صلاح، مجموعة من الحكم منها « يا ولدى لا تكن كالعصفور»، وعندما سألتها وكنت وقتها فى السنة الأولى فى المدرسة الثانوية، أى أننى كنت فى مرحلة المراهقة بكل تطلعاتها فى بيئة ريفية أجابت: إنه - أى العصفور- يرفع رجليه، ويخشى أن ينزلهما على الأرض خشية أن تقع السماء على الأرض». لأنه يظن أنه هو الذى يحمل السماء فوق رجليه، فهمت من هذه الحكمة فضيلة أو قيمة الاتزان. وتعلمت أن الله تعالى وحده هو القادر على كل شىء، وأن الوهم بالقوة - مهما كانت فكرية أو جسدية أو مادية - لا يعنى قوة حقيقية، وهو مثل ظل الأسد لا يخيف، بل إنه فى معظم الأحيان يؤدى إلى كوارث، وذلك كما يقول الشاعر :
كَنَاطِحٍ صَخرَةً يَوْمًا ليوهنها.... فَلَمْ يَضِرْها وَأوْهَى قَرْنَهُ الوَعِلُ
النماذج عديدة من الاغترار بالقوة، ونتائج هذا الاغترار الكارثية. وأخطر تلك النماذج هتلر والظاهرة الهتلرية. تسبب هتلر وطموحاته الطاغية فى دمار لا مثيل له، وفى قتل خمسين مليونًا من البشر أو أكثر، وتم تقسيم العالم إلى كتلتين غربية وشرقية، ومن ذلك تقسيم ألمانيا ذاتها، وبرلين مثال واضح لهذا التقسيم، بل أدى طغيان هتلر وطموحاته الطاغية رغم القوة التى امتلكها، إلى أن تحتل أمريكا جزءًا من ألمانيا ويحتل الاتحاد السوفيتى الجزء الآخر.
نعم « كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَىٰ * أَن رَّآهُ اسْتَغْنَىٰ». قصص الطغيان المنصوص عليها فى القرآن عديدة، وفى هذا يقول القرآن الكريم « أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِى لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِى الْبِلَادِ * وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ * وَفِرْعَوْنَ ذِى الْأَوْتَادِ * الَّذِينَ طَغَوْا فِى الْبِلَادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ».
ثم يأتى التحذير من الوقوع فى هذا الانحراف القاتل اغترارا بالقوة أو توهم القوة. وهنا يقول القرآن الكريم «إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ». إن الله تعالى يقول لنا جميعًا إنه تعالى بالمرصاد لمن يطغى ولا يتعظ بقصص الطغاة من عاد إلى ثمود إلى فرعون ولمن يكثر الفساد ولا يرتدع بالمواعظ ولا بالتجارب سواء أكان دولة أو أمة أو فردًا.

الأمة الإسلامية كلها أو الأمة العربية، طغت فى الغالب بالبعد عن دينها وقيمه، وعن ربها وأوامره ونواهيه، وعن رسولها «صلى الله عليه وسلم» وعن تعاليمه، ودخلت - رغبة أو رهبة - فى صراع أضاع هيبتها وإمكاناتها من بشرية ومادية، فنزلت إلى قاع الأمم، وأصبحت مدينة رغم الثروات المادية الكثيرة، وغرقت فى الاستهلاك، وفى التغريب المهلك، وتعددت فى أراضيها القواعد العسكرية الأمريكية والغربية، واستعانت بالقوات الأجنبية ضد بعضها البعض، فقضى ذلك على شوكتها، وهز كرامتها.
وقد رأينا فى عصرنا الحاضر نماذج عديدة من الطغاة الذين أهملوا شعوبهم وأوطانهم فتخلفوا وتسلطوا وتجبروا، فكانت نهايتهم مأساة لمن يعتبر. نرى صدام حسين يستذل قومه حتى ينهار العراق ويحتله الأمريكان، بعد أن احتل الكويت فى مهزلة مؤسفة من كل جوانبها، ثم تعبث به المنظمات الإرهابية لسنوات طويلة دون رادعٍ. ومن نماذج الطغيان فى عصرنا القذافى، ووضع ليبيا أمام أعيننا اليوم خير شاهد على ذلك، ضاعت فيها الثروة، وضاعت فيها الدولة، وانتشر فيها الإرهاب الذى يهدد الجيران. كل هذا تحت سمع وبصر الجامعة العربية وغيرها، حتى عجزت الأمة عن حل مشكلة واحدة بدون تدخل خارجى. وها هى سوريا أمامنا نتيجة الظلم والطغيان، ولا يستطيع أحد منا أن ينقذها رغم أننا جميعًا نعلم ونعرف حجم الدمار وخطر الدمار، أما الطغيان فى اليمن والظلم فمتعدد الأوجه. الطغيان مدمر أكثر من القنابل النووية لمن يتعظ أو كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد. وللحديث صلة. وبالله التوفيق.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف