التحرير
ناصر عراق
لماذا تجاهلت السينما المصرية اعتقالات سبتمبر 1981؟
قبل 35 عامًا بالضبط، وفي أغرب تصرف يقوم به رئيس دولة أقدم أنور السادات على اعتقال عقل مصر المضيء، إذ أصدر أمرًا بالتحفظ على 1536 من كبار المعارضين لسياساته في الثالث من سبتمبر 1981 في واقعة لم تحدث من قبل، والأدهى أن قائمة المعتقلين ضمت قامات لها وزنها في المجتمع المصري مثل محمد حسنين هيكل وفؤاد سراج الدين رئيس حزب الوفد آنذاك وعبد العزيز الشوربجي نقيب المحامين والروائية لطيفة الزيات وفتحي رضوان وزير الإرشاد القومي في زمن عبد الناصر وعبد المنعم تليمة وصلاح عيسى، فضلا عن تحديد إقامة البابا شنودة الزعيم الروحي لأشقائنا الأقباط وغيرهم عشرات من كبار المثقفين والكتاب والسياسيين، علاوة على إغلاق بعض الصحف وإبعاد مجموعة من أساتذة الجامعة عن وظائفهم، ومع ذلك لم تتناول السينما هذا الحادث الجلل إلا مرة واحدة فقط، وكانت بشكل عرضي، في عام 2003 عندما عرض فيلم (أيام السادات)!

قبل أن نشرح الأسباب تعال نتحدث سريعًا عن الظروف والملابسات التي دفعت السادات إلى إصدار أمر بالقبض على أبهى وأنصع العقول المصرية في ذلك الزمن!



السخط الشعبي

لعلك تذكر -إذا كنت قد تجاوزت الخامسة والأربعين- أحوال مصر بعد حرب أكتوبر 1973، وكيف ضاع النصر العسكري المجيد في دروب المفاوضات مع إسرائيل حتى باتت أوراق اللعبة كلها في يد أمريكا كما قال السادات نفسه بالحرف الواحد.

وأظنك تتذكر أيضا المساوئ الجمة التي صاحبت قرارات السادات الاقتصادية والتي أطلق عليها (الانفتاح الاقتصادي) عام 1974، وكانت نتائج هذا الانفتاح وخيمة على الغالبية العظمى من الشعب المصري، إذ تكدس الفقر وانتشر الحرمان بين الملايين، في مقابل تراكم الأموال الحرام في جيوب قلة من التجار والسماسرة وسارقي قوت الشعب، حتى ضج الناس وخرجوا في مظاهرات عارمة في يناير 1977 ضد السادات ونظامه، تلك التي سميت انتفاضة يناير.

في يناير 1977 احتشد المصريون ضد السادات وهتفوا منددين بحكومته، وفي نوفمبر من العام نفسه ذهب السادات منفردًا إلى إسرائيل طالبًا السلام كما قال، الأمر الذي جعل معارضيه يتشممون روائح انقلاب جوهري في السياسات والانحيازات التي اتخذها نظام عبد الناصر لصالح الشعب وأيده فيها الغالبية العظمى من المصريين.

هكذا إذن لم يتوقف السياسيون والكتاب والصحفيون عن انتقاد مواقف السادات وخياراته، خاصة بعد أن اضطر كثير منهم إلى مغادرة الوطن إثر قرارات الإبعاد عن وظائفهم، علاوة على تعرض الكثير منهم إلى الاعتقال، خاصة اليساريين والناصريين والقوميين، وكلنا يذكر مأساة الشيخ إمام وأحمد فؤاد نجم مع الدولة البوليسية الساداتية!

المهم.. وكي لا أطيل عليك.. في عام 1981 شهد المجتمع المصري حالة احتقان شديدة بسبب ازدياد الظلم والفساد من ناحية وبطش السلطة من ناحية أخرى، الأمر الذي أدى إلى اشتعال نوبة من نوبات الفتنة الطائفية في الزاوية الحمراء بالقاهرة، فاضطرب الرئيس السادات وأصدر أمرًا في 3 سبتمبر من ذلك العام باعتقال كوكبة من رموز الوطن متهمًا إياهم بأنهم سبب كل بلاء تتعرض له مصر، وعلى الفور انتفض كثير من كتاب النظام يمتدحون هذا القرار، لدرجة أن موسى صبري رئيس تحرير الأخبار آنذاك كتب مقالا بعنوان (أخطر من قرار أكتوبر)!
وفي 5 سبتمبر ألقى خطابه الأخير الذي بدا فيه منفعلا بصورة لا تصدق لدرجة أنه سب معارضيه بالاسم، مما يعد تصرفا غير جائز من قبل رئيس جمهورية، وبعد شهر واحد فقط أقدمت الجماعات الإرهابية المتاجرة بالدين على اغتياله في مشهد نادر المثال!



السينما المحافظة

علينا الاعتراف بأن السينما المصرية طوال تاريخها لم تكن سينما ثورية أو جريئة، أو سينما تحرض على مواجهة البطش أو الظلم بشكل فني، بل كانت -في مجملها- سينما محافظة.. تخشى السلطات.. تتنجب إغضاب الرأي العام حتى لو كان هذا الرأي يسير في طريق فاسد.. لا تقرب -إلا فيما ندر- أجواء السياسة ومخاطرها، ولعلك تتذكر أن ثورة يوليو 1952 لم يتم تناولها سينمائيا إلا بعد بضع سنوات على اندلاعها، كذلك لم يحاول صناع الأفلام عندنا أن يقدموا فيلما عن الزعيم أحمد عرابي، أو كيف احتل الإنجليز مصر عام 1882، أو مظاهرات العمال والطلبة عام 1946 أو غيرها من الأحداث السياسية المهمة، لذا يصبح من الطبيعي والسينما عندنا هكذا تخشى الغوص في بحر السياسة المتلاطم الأمواج ألا تمر على أكبر عملية اعتقال تمت في وقت واحد لأهم نخبة فكرية وسياسية ودينية.

لاحظ أيضا أن السينما عندنا لا تخلو من نفاق الحكام، فالأفلام التي امتدحت عبد الناصر وهو ما زال حيا أظهرت العصر الملكي بشكل بالغ البؤس، فالخديو إسماعيل كان مجرد رجل سكير يطارد النساء كما ظهر في فيلم (ألمظ وعبده الحامولي/ 1962) لحلمي رفلة، وكذلك فعل صناع السينما في عهد السادات، حيث أنجزوا عدة أفلام تدين الحقبة الناصرية وتعتبر الزعيم مجرد ديكتاتور مفتون بتعذيب المواطنين (الكرنك/ 1975) لعلي عبد الخالق على سبيل المثال!

هكذا إذن دأبت السينما المصرية على منافقة الحكام الحاليين من خلال سب وتجريس الحكام السابقين، فلماذا إذن لم تحاول السينما أن تتناول اعتقالات سبتمبر في زمن مبارك؟

ليس عندي تفسير سوى أن صناع السينما في مصر أدركوا بحساسيتهم الفنية أن زمن مبارك لن يختلف عن زمن السادات، وأن نائب الرئيس الذي شهد واقعة اغتيال الرئيس سيواصل السير على الطريق البائسة نفسها التي سار عليها سلفه القتيل، وهكذا لم تسع السينما في زمن مبارك إلى فضح جريمة اعتقال رموز مصر، ولا أعتقد أنها ستفعل في زمن عبد الفتاح السيسي، وأنت وأنا نعرف لماذا؟

هكذا إذن أضاعت السينما على نفسها وعلينا فرصة ذهبية لتناول قضية اعتقالات سبتمبر، إذ كان من الممكن أن تصاغ القصص المثيرة والإنسانية العديدة التي تتمخض عن عملية الاعتقالات هذه، وكان المجتمع قد ربح جولة مهمة في صراعه مع الحكام الديكتاتوريين الذين ستنفضح قراراتهم الشائنة من خلال أهم وسيلة دعاية وأكثرها بقاء وخلودًا، وأقصد السينما!
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف