غاب ميل جيبسون عن الإخراج السينمائى عشر سنوات ثم عاد فى هذا العام بفيلم «هاكسو ريدج»، بطولة تريسا بالمر ولوك برايسى وأندرو جارفيلد. تميز الفيلم يعود إلى حبكته التى تحكى عن مسعف أمريكى فى الحرب العالمية الثانية والجيش يتأهب لخوض معركة أوكيناوا.. يرفض هذا الجندى حمل السلاح بسبب أن قناعاته الذاتية تقف ضد العنف وضد فكرة القتل من الأساس. العجيب أن هذا المسعف يحصل على ميدالية الشرف من الجيش الأمريكى كأول شخص ممن يحركهم الضمير لرفض العنف.
ذكّرتنى قصة الفيلم بحكاية رواها الفريق سعد الشاذلى فى مذكراته عن حرب أكتوبر، عن حالة صادفها أثناء تفقده الجبهة أثناء حرب الاستنزاف والاستعداد لخوض المعركة الحاسمة ضد العدو. ذكر الشاذلى أن القادة عرضوا عليه حالة جندى يرفض القتال ويعترض على فكرة حمل السلاح ابتداء لأن مبادئه تتعارض مع استعمال العنف ضد البشر بصرف النظر عن أى اعتبارات أخرى. ويقول الشاذلى فى مذكراته إن شواغل الاستعداد على جبهة حرب عريضة قد شغلته عن متابعة قصة ذلك الفتى فلم يعرف مصيره أو ما حل به بعد ذلك. وبهذه المناسبة يمكننى أن أقول للمتباكين على حال السينما عندنا إن الموضوع لا يتعلق بفقر الخيال إذ إن الحياة تمدنا كل يوم بموضوعات جديدة يمكنها أن تثير الخيال وتحرك لواعجه كحالة الجندى المشار إليه، لكن المشكلة تكمن فى أن الرقابة لا يمكن أن تسمح بالتناول السينمائى لحالة جندى كهذا يُعتبر مارقاً وعاصياً فى زمن الحرب، وبالتالى فإن الإعدام رمياً بالرصاص هو العقوبة المتوقعة له. لست أجادل فى أن العصيان فى زمن الحرب هو جريمة كبرى قد يترتب على التهاون فيها شرور مستطيرة، لكنى فقط أشير إلى أن التناول السينمائى الإنسانى لقصة فردية لم تكن لتترتب عليه تداعيات خطيرة كما يظن البعض.. من الممكن تقديم قصة هذا الفتى والتغلغل إلى أعماقه الرافضة للعنف وتقديم أفكاره فى صورة بشرية يمكن الاختلاف بشأنها سواء بالتعاطف أو الاستنكار، ثم المضى به إلى مصيره المحتوم وهو الموت وفاء لما آمن به واستعد لدفع ثمنه. لكن علينا أن نعترف أن النظرة الأحادية تسيطر على حياتنا ورؤيتنا وطريقة تناولنا للأمور، الفنى منها وغير الفنى، وعلينا أن نقر أن لنا خصوصيتنا التى كان حسنى مبارك يتحدث عنها للميديا العالمية حين كانوا يواجهونه بتزوير الانتخابات والتعذيب فى السجون!، خصوصيتنا هذه تتعلق بالتدين الزائف والوطنية الزائفة وكلاهما لا يسمح للجانب الإنسانى للبشر بالظهور، بل يعتبر أن هذا الجانب إما دليلا على الكفر والخروج من الملة أو دليلا على المروق والبعد عن الوطنية. لكن فى أمريكا الحرة القوية فإنه يمكن لكل الزهور أن تتفتح ويمكن لجميع الآراء والأفكار والمذاهب والطوائف أن تتواجد وتعيش جنباً إلى جنب مع غيرها.. كما يمكن للسينما أن تناقش كل ما يشغل الإنسان دون أن تخرج أصوات تدعو للتكتم والإخفاء. لهذا فإننا سنظل نحلم بالوصول للعالمية فى السينما دون جدوى، لأن الوصول للعالمية يقتضى ترميم الخيال المهشّم والنبش فى أعماق الإنسان دون وجَل بعيداً عن محاذير الرقيب الرسمى والرقيب الافتراضى والبابا وشيخ الأزهر.