المساء
محى السمرى
المحمل وحج اليوم الواحد..!
كلما هل موسم الحج في كل عام.. تاقت نفسي للسفر لأداء هذه الفريضة رغم اني أديتها أكثر من مرة.. وقد أتاح الله سبحانه وتعالي لي الفرصة مرتين أخريين.. ولكنني حدثت نفسي بأن هناك من هو أحق مني من الذين تتوق نفسهم للسفر لأداء هذه المناسك.. ولا يصح أن أسافر وأترك من لم يحجوا بعد.
الحج بالتأكيد متعة ولكنه مشقة ولهذا قرنه الله بقيد مهم هو من استطاع إليه سبيلاً.. والاستطاعة هنا كما هو معروف مالياً وصحياً.. والحقيقة ان المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها لديهم رغبة أكيدة لأداء الفريضة.. حيث استجاب الله تعالي لدعاء ابراهيم عندما دعا ربه "ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم.. ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون" "الآية 37 سورة ابراهيم".
ولهذا فلا عجب عندما نجد بسطاء الناس يدخرون القرش فوق القرش لكي يجمعوا تكاليف رحلتهم.. وأصبح الناس من المسلمين لا يهتمون كثيراً بما يدفعون فهناك من يدفع عشرات الآلاف من الجنيهات لأن المهم هو أداء الفريضة مهما كانت التكاليف ويكفي أن نعلم ان أقل رحلة حج تتكلف هذا العام 34.5 ألف جنيه بينما هناك رحلات أخري فاخرة تزيد تكلفتها علي المائة ألف جنيه.
الواقع ان الحج الآن يختلف تماما عن الحج في بداية القرن العشرين.. سواء من حيث التكلفة أو المشقة والراحة.. ومن حيث مدة الرحلة وآهاتها فالآن يمكن أداء الفريضة والعودة خلال يوم واحد.. فبعد النزول من عرفات إلي المزدلفة ومني ورمي الجمرات والوصول إلي الكعبة لطواف الإفاضة والتحلل ثم توكيل الغير لرمي الجمرات وذبح فدو لعدم المبيت في مني وبعدها يمكن العودة بالطائرة إلي القاهرة بحيث يحضر صلاة العيد وقد أدي فريضة الحج كاملة.
وعلي وجه العموم هناك كثيرون يؤدون الفريضة ويعودون خلال أيام معدودة..
أما زمان فإن الأمر يختلف تماما عن الآن.. زمان كان موسم الحج يبدأ باحتفال بنقل المحمل من المصنع من منطقة البحر نفسه إلي القلعة حيث يقام احتفال فخم في ميدان صلاح الدين يحضره الخديو والوزراء والعلماء والأعيان.. حيث تطلق المدافع 21 طلقة وتعزف الموسيقي والسلام للخديو مع الهتاف لسموه "يعيش أفندينا طويلاً".
وفي ليلة الخامس عشر من ذي القعدة يتحرك قطاران من العباسية أحدهما قطار بضاعة يحمل الكسوة وما يتبعها وأمتعة المسافرين والخدم والعسكر للحراسة.. وقادة الإبل الذين يقودون الجمال في الرحلة من جدة إلي مكة ومن مكة إلي المدينة وفي غيرها من الأراضي أيضاً وحملة المشاعل للإضاءة وحملة المياه للسقي وبعد التأكد من سلامة الإجراءات ينطلق قطار الركاب وعليه أمير المحمل والمحمل والموظفون وبقية الحرس والأهالي الحجاج ويقطع القطار المسافة إلي السويس في نحو 7 ساعات ثم ينتقل الجميع من القطار إلي الباخرة التي تعبر البحر الأحمر إلي ميناء جدة التي ترسو بعيدة عنه بنحو ميلين لكثرة الشعب المرجانية عند الرصيف ويضطر الركاب إلي استخدام المراكب الشراعية لنقلهم وأمتعتهم من الباخرة إلي البر.. والطريف ان قوانين الدولة في جدة كانت تأخذ من كل حاج مبلغ ثمانية قروش رسم الحجر الصحي وقرشين رسم إجازة السفر وقد ارتفعت الرسوم كما ذكر اللواء ابراهيم رفعت باشا قومندان حرس المحمل سنة 1318 هجرية إلي 89 قرشاً عن كل حاج في سنة 1342هـ وكان أداء الرسوم يستغرق وقتا طويلا ولهذا كان الحجاج يضطرون إلي افتراش الأرض الرطبة حتي تنتهي مهمة التحصيل خصوصا وان عدد الحجاج علي الباخرة كان دائماً لا يقل عن 600 حاج وكانت مصر تحصل من كل حاج قبل تحركه من السويس علي مبلغ 32 مليما ضريبة الحجر الصحي.
طبعاً قيمة الفلوس زمان تساوي أضعاف أضعاف قيمتها الحالية وبعد هذه الرحلة الشاقة يتحرك الحجاج والمسئولون عن الحج إلي مكة.. بعضهم يستخدم الدواب من جمال وخيول وحمير وبعضهم يقطع هذه المسافة الطويلة من جدة إلي مكة سيراً علي الأقدام.. ولما كانت الطرق غير آمنة رغم الحرس الذي وجد للحفاظ علي الأمن وقد كانت هناك التعليمات للحجاج ألا يتأخروا عن القافلة حتي لا يسلب اللصوص أمتعتهم وكان ذلك يحدث كثيراً.
ومن الأمور الغريبة ان شريف مكة قرر أن يدفع كل حاج ريالاً إعانة للسكة الحديد ومن يمتنع عن الدفع يمنع من الخروج من مكة وكان الحجاج يبقون نحو اسبوع بعد أداء المناسك وقد استخدمت أساليب في غاية القسوة في تحصيل هذه الرسوم أما رحلة العودة فكانت تظللها مشاكل أخري كثيرة ما بين مرض وضربات شمس وتعرض لسرقات وغير ذلك.. وكان الحجاج يمضون أياماً في الطور حيث انشأت الحكومة محجرا لعزل الحجاج للتأكد من سلامتهم.. وربما لشك أهالي الحجاج في عودتهم سالمين إلي بلادهم كانوا يزينون بيوتهم ويقيمون الحفلات الشعبية فرحاً بعودة حجاجهم بسلامة الله.
فعلاً الدنيا تتغير والحج زمان رغم مشقته وتعبه وعذابه إلا أن البعض يفضل هذه المشقة عن سهولة ويسر الحج حالياً.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف