الأهرام
عزت ابراهيم
خطر الارتباط المزيف بالعالم!
من الأشياء المدهشة فى المجتمعات العربية هى قدرة البعض على الادعاء بفهم حركة العالم الخارجى ربما أكثر من سكان تلك الدول. وقد سيطرت تلك الفكرة على مخيلة الكثيرين خاصة فى فترات الأزمات السياسية الكبرى وتبلور الاحساس بتلك القدرة الجبارة على فهم حركة المجتمعات الأخرى وبجرأة نادرة مع تفاقم تطورات القضية الأكثر اهتماما فى الأجندة العربية على مدى قرابة 70 عاما وهى القضية الفلسطينية والتى مثلت اخفاقاتها مبرراً للانغلاق الذاتى لبعض النخب وتصوير الكون فى حالة عداء معنا. استفادت نخب بعينها من تصدير تلك الحالة الى المجتمعات العربية وتعويض فشلها فى الدفاع عن الحقوق المغتصبة فى المنابر الدولية والارتكان الى أنظمة حكم، ووجدت طوق نجاة فى الدفع بالقضية الفلسطينية الى قائمة الأولويات «شكليا» بينما فى البلد الذى دفع الغالى والنفيس لم يناله سوى التراجع والتخلف الاقتصادى وهو ما أثر كثيرا فى التنمية البشرية وبناء عقل جديد قادر على التفاعل مع العالم الخارجي.

تلك واحدة من أسباب تراجعنا وعدم القدرة على اكتساب معارف وشق طرق ودروب جديدة للتقدم مثلما فعلت دول أخرى كانت أقل شأنا فى سلم الأمم. تولدت حالة ارتباط مزيف بالعالم الخارجى فى العقود الأخيرة وتصورنا أنها حالة ايجابية وتسير وفقا لمعدلات مطردة تدفع بنا الى بناء مجتمعات أكثر انفتاحا على الأفكار وعلى التغيير وفقا لمسالك ومناهج علمية ولكن لم يحدث وازدادت دوائر الفراغ فى مجتمعات الشرق الأوسط لتفرز ظواهر هى الأكثر سلبية فى العالم اليوم مثل الجماعات الدموية الرافضة للمدنية والتشدد الدينى والتعصب العرقى والمذهبى فيما يراوح المجتمع المدنى مكانه ولا يمكنه تقديم طفرة ملموسة تجعله قائدا لقاطرة التحديث فى المجتمعات العربية. فى العلاقة مع العالم الخارجي، هناك بالفعل حاجة الى ترشيد «الفخر الذاتي» وممارسة المزيد من «النقد الذاتي».

السؤال فى ظل كل ما يجرى من اعادة سيناريوهات الفشل فى المنطقة: هل يمكن أن نخرج من حالة الارتباط الشكلى أو المزيف بالعالم الخارجى ونلحق بركب الدول المتقدمة؟ وهل نملك مقومات الخروج من أوهام التعالى على فهم العالم الخارجى من أجل علاقة أكثر صحية تأخذ بأسباب التقدم وتعلى من قيم الانسانية وتبتعد عن الذاتية المفرطة؟

بداية الحل، من وجهة نظري، هو الاعتراف بأن علاقتنا بالعالم الخارجى يسودها الفشل فى معظمها، فلا يكفى أن نتواصل عبر وسائل اجتماعية «الكترونية» أو نتبادل الحوارات عبر تطبيقات حديثة حتى نقول إننا ننتمى الى العالم الحديث. نظرة فاحصة لترتيب الجامعات المصرية والعربية بين أفضل الجامعات فى العالم تقول إن هناك تأخرا كبيرا عن سائر مناطق العالم، وترتيب الجامعات يحكم على مدى تقدم أو تأخر الشعوب. فدول شرق اسيا تقدم ترتيبها فى الاقتصاد العالمى عندما قفزت جامعاتها الى مراتب متقدمة وليس العكس. ويخلو ترتيب مراكز الأبحاث والمؤسسات العلمية من المؤسسات العربية التى تقدم أوراقا بحثية ينتفع بها العلم الحديث، باستثناء ظهور جامعة القاهرة فى بعض الفروع، بينما تتوزع الهيمنة على المراكز المتقدمة على الدول الغربية وروسيا وشرق اسيا ودول فى أمريكا الجنوبية. الاهتمام بالعلم يعنى بناء قاعدة للتقدم وهناك من أقام مؤسسات علمية جيدة من الناحية الشكلية ولكنها لا تقدم انتاجا بحثيا يرقى الى مستوى الاسهام فى تطور العلم

الخصومة مع المدنية والعلم الحديث تظهر على مواقع التواصل بسبب سيطرة تيارات رجعية تمارس حرية كاملة فى نشر الأفكار الظلامية فى مواجهة أجيال جديدة تريد أن تشق لنفسها طريقا فى وسط الظلمات السائدة فى المنطقة. وهى مفارقة عجيبة حيث يتم توظيف انتاج الأخرين من التكنولوجيا الحديثة لزيادة مساحة الخصومة مع العالم الخارجي. فى غياب خطط واضحة لرفع مستوى التعليم والبحث العلمى ومحاربة التيارات الرجعية المنغلقة هناك خطورة فى استخدام التكنولوجيا فى قطع صلاتنا بالعالم المتقدم تدريجيا وربما هو ما تريده التيارات الظلامية التى تستفيد من الخصومة مع الأخرين وتقوى من مكانتها فى المجتمعات الشرق أوسطية بدليل أن تنظيم «داعش» وقبله «القاعدة» قاما بنشر أفكارهما فى مرحلة ازدهار شبكة المعلومات الدولية ثم بعد صعود ظاهرة التواصل الاجتماعي. ففى كل مرة تظهر وسيلة الكترونية متطورة، تقوم تلك الجماعات المنظمة بالاستفادة منها فى نشر أفكارها وتجنيد أنصار لها، بينما الخطط الرسمية لمواجهة تمدد تلك الجماعات تركز على المواجهات الأمنية أكثر مما تسعى لعلاج الخلل السياسى والثقافى والاجتماعى الذى أنتج تلك التشكيلات المتنوعة من المتشددين.

أيضا، الصراعات المسلحة فى الشرق الأوسط أدت الى تزايد هجرات العقول الشابة بحثا عن فرص عمل ومستقبل أفضل وهو يعنى تآكل القاعدة العلمية التى كان يمكن الاعتماد عليها فى بناء مؤسسات جديدة فى ظل النقص الحاد فى مراكز الأبحاث بالجامعات الحكومية والمنحى المخيب للجامعات الخاصة التى كان يعول عليها فى ضخ تمويلات تخدم التقدم العلمى من الفوائض الهائلة فى أرباحها.

الأرتباط بالعالم المتقدم توجد له شروط واضحة اليوم ولا يمكن الادعاء بالانتماء الى فئة متقدمة من الدول لمجرد استخدام شبكات الكترونية أو الدخول بكثافة على مواقع التواصل الاجتماعي، فتلك الوسائل هى نتاج العلم الحديث ومحصلة فكر انسانى وتراكم معرفى هائل. والوصول الى تحقيق شروط الارتباط «الإيحابي» بالعالم الأكثر تقدماً يتطلب صراحة متناهية بالحالة التعليمية والعلمية المتردية والتوقف عن تناول المسكنات التى تهديء من الأوجاع ولكنها لا تعالج المرض. قواعد الارتباط بالعالم الخارجى تحتاج الى تغيير ويمكن أن تكون البداية بفكرة مبتكرة، مثلما فعلت دول حديثة فى سلم التقدم، تقوم على تشكيل مجموعة عمل عابرة للأجيال تضع ورقة سياسات بتوصيات عما يجب فعله لتجديد الصلات مع العالم وربما تكون نوبة افاقة على غرار تجارب دول أخري!.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف