المصرى اليوم
عباس الطرابيلى
مصر.. والحكومات العسكرية
قد لا يعرف أحد أن مصر عرفت حكومات عسكرية يرأسها أحياناً قادة من العسكر أو من الضباط.. أو تضم بين أعضائها وزراء منهم.. ولكن التاريخ لا يكذب، أقول ذلك لأن هناك من يرفض فكرة تولى رئاسة الحكومة، أو الوزارات، بعضاً من هؤلاء وهؤلاء.. أقول ذلك رغم أننى أرى لا مانع من تولى بعضهم المسؤولية الكبرى.. إذا كانت البلاد فى حاجة إليهم.. أو إلى خبراتهم.. وأيضاً شعبيتهم.. على أن يتم هذا الاختيار وفق حسابات دقيقة تقدم لنا «خلطة» من الكفاءات القادرة على الإدارة.. وتملك الإرادة من كل الاتجاهات: ضباط جيش وضباط شرطة وقضاة وأساتذة جامعات.. لأن كلهم مصريون، فلم يأت هؤلاء الضباط من فراغ، لأنهم أبناء مصر جميعاً ولهم آباء وأعمام وأخوال من أديم هذه الأرض.

وقد لا يعرف أحد، إلا القليل، أن أبوالدستور المصرى الأشهر محمد شريف باشا كان ضابطاً بالجيش بل خدم فى الجيش الفرنسى أيضاً برتبة ضابط!! وعندما عاد من فرنسا حيث درس العسكرية إلى مصر أخذ يترقى فى رتب الجيش حتى وصل مع عهد الوالى محمد سعيد باشا إلى رتبة فريق!! وفى عام 1875 تولى رئاسة مجلس شورى النواب، أيام الخديو إسماعيل، بل عُين رئيساً للنظار، أى رئيساً للحكومة المصرية فى إبريل 1879، وتولى رئاسة الحكومة أكثر من مرة حتى أيام الخديو توفيق، وهو واضع واحد من أهم الدساتير المصرية.

وكذلك مصطفى باشا رياض الذى وصل إلى رتبة الأميرالاى، أى العميد.. وتولى الوزارة أكثر من مرة.. ورئيساً للديوان الخديوى وكان وزيراً فى أول وزارة تعرفها مصر تحت رئاسة نوبار باشا عام 1878 إلى أن أصبح رئيساً للوزراء فى سبتمبر 1879، وفى عهده اشتعلت الثورة العرابية.. ثم تولى رئاسة الحكومة بعد ذلك مرات.. وهذا هو رب السيف والقلم الشاعر الكبير محمود سامى البارودى الذى تولى أكثر من وزارة، قبل أن يصبح رئيساً للحكومة فى فبراير 1882 وهى الحكومة التى تولى فيها أحمد عرابى وزارة الجهادية «الحربية» والبحرية.. وكان البارودى من ضباط الجيش المصرى ووصل إلى رتبة أميرالاى واشترك فى القضاء على ثورة كريت والحرب ضد روسيا ثم رُقّى بناءً على ذلك إلى رتبة اللواء.. بل كان وزيراً للمعارف فى يوليو 1879!!

بل المفاجأة التى «قد» لا يعرفها أحد من المصريين أن مصطفى باشا فهمى، وهو أطول رؤساء حكومات مصر عمراً فى الحكومة، كان أيضاً ضابطاً فى الجيش.. وهو بالمناسبة والد أم المصريين صفية هانم «زغلول»، زوجة الزعيم الشعبى سعد زغلول.. وكان والده ضابطاً برتبة بكباشى، «مقدم»، أما مصطفى فهمى نفسه فقد تعلم بالمدرسة الحربية بالقلعة والتحق بالجيش وظل يترقى فى مناصبه حتى حصل على رتبة «فريق»!! ثم عُين مديراً للمنوفية ثم محافظاً للقاهرة وبورسعيد وناظراً للخاصة الخديوية قبل أن يتولى رئاسة الحكومة وعمل وزيراً فى وزارات عدة، منها: الأشغال، الخارجية، الحقانية «العدل»، المالية، الداخلية.. والحربية والبحرية!! وظل رئيساً للحكومة قرابة 14 عاماً.

وقد كانت وزارة الحربية، مع تغير اسمها من الحربية والبحرية، والجهادية.. والحربية.. والدفاع يتولى معظمها - فى كثير من العهود - ضباط فى الجيش المصرى بحكم طبيعة هذا المنصب.. وإن كان ذلك لم يمنع تعيين وزراء مدنيين لشغل هذه الوظيفة العسكرية، سواء من بداية إنشاء نظام الوزارات أو بعد ذلك.. وإن كان هذا الوزير المدنى لوزارة الحربية هو الأبرز فى مصر منذ أول حكومة دستورية جاء بها دستور 1923.. وحتى قيام ثورة يوليو 1952.. وتلك لها حكاية أخرى.

ولا أقول بحكومات عسكرية - كما رأينا - تملقاً لفئة مسؤولة من المصريين زمان، أو فى هذا الزمان.. ولكن تلك هى الحقيقة التى يجب أن نعترف بها.. وليس فقط خلال الثورات، لأنه حتى خلال ثورة العرابيين تولى رئاسة الحكومة غيرهم.. وكذلك طوال ثورة 1919، التى امتدت من مارس 1919 إلى أن تمت أول انتخابات دستورية فى ظل دستور 1923 كان رئيس الحكومة مدنياً.. وكذلك كان وزراء الحربية والبحرية.

■ ■ ونعترف هنا بأن الشعب لم يكن يرى فى وجود رؤساء حكومات من العسكريين عيباً، أو عواراً.. وهذا هو شريف باشا الذى نطلق عليه أبوالدستور المصرى كان ضابطاً برتبة فريق.. وتولى رئاسة الحكومة أربع مرات.. وكذلك مصطفى باشا رياض!!

■ ■ بل من هؤلاء العسكريين من تولى وزارات متخصصة جداً، مثل المالية والأشغال والعدل!! ونجحوا فى إدارتها.. ولا أقول ذلك تبريراً لما حدث فى حركة المحافظين الأخيرة.. ولا حتى شغل منصب وزير التموين.. ولكننى أرى أن ذلك ليس عيباً - بالذات فى وزارة التموين - التى تحتاج إلى إدارة وإرادة.. وقدرة على الحسم السريع.

■ ■ ولكن هذا الوضع تغير مع كل حكومات دستور 1923.. إذ لم تشهد مصر رئيساً للحكومة عسكرياً، لا من الجيش، ولا من الشرطة.. بل إن كل وزراء الدفاع، أى الحربية، وكذلك وزارة الداخلية.. كانوا من المدنيين، ولذلك يصف المورخون هذا العصر بالعصر الدستورى.

ومن لا يصدق.. فموعدنا معه غداً لنروى هذه الحقيقة كاملة.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف