الوطن
ناجح ابراهيم
الرسول يدعوكم للصلح وحقن الدماء
رسالة الحج بل ورسالة الإسلام لخصها رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فى خطبته فى حجة الوداع، إذ شعر رسول الله أنه سيودع أمته، فبث فيهم جوامع رسالته وملخصاً وافياً لكل ما يريده من أمته قبل الفراق.

فى مثل هذه الأيام وقف الرسول صلى الله عليه وسلم يخطب فى أصحابه الذين اجتمعوا له، حتى الذين لم يروه من قبل جاءوا فى هذا اليوم ليسعدوا برؤيته وسماعه.

نظر الرسول عن يمينه ويساره وأمامه وخلفه، فرأى الجموع مد البصر، فقد اجتمعت له الآلاف المؤلفة، اجتمعوا حوله اليوم محبين بعد أن بارزوه بالعداوة والشقاق سنوات طويلة، اجتمعوا إليه خاشعين منصتين بعد أن كانوا له قبل ذلك محاربين ومتآمرين. إنهم غرس الدعوة الذى غرسه، إنهم نتاج حلمه وصبره وعفوه وكرمه، إنهم نتاج محبته للناس ودعوته لهم لا عليهم، إنه يبادلهم حباً بحب، ولكن الرسول فى بداية الحديث يصدمهم بمفاجأة أليمة: «أيها الناس اسمعوا قولى لعلى لا ألقاكم بعد عامى هذا» إنه يلمح بالوداع.

ياااه. إنها إذاً كلمات مودع، ووصايا نبى يكاد يفارق أحبابه بعد أن أنست به الدنيا وسعدت لسنوات، كيف تلمح يا سيدى بالرحيل ونحن لم نشبع منك، وإذا بالبكاء يشتد، وجرير يستنصت الناس، فأنصت الحجر والرمل والقفر والدنيا كلها لكلمات نبى عظيم يودع أصحابه والدنيا كلها، يودعها بعد أن ملأها خيراً وبراً ومعروفاً ومودةً وصلاحاً ورحمة ويسراً وهدايةً للخلائق، أهكذا تودعنا يا رسول الله سريعاً؟!

وها هو حبيب الله يستودعهم خلاصة دعوته وزبدة رسالته، وفى بدايتها يستثير فضولهم واهتمامهم بقوله «أى يوم هذا»؟ فسكتوا وكأنه سيسميه بغير اسمه، فقال: أليس يوم الحج الأكبر، قالوا: بلى، وبنفس الطريقة سأل عن أى شهر هذا؟، وأى بلد هذا؟، وسكتوا وأجاب: أليس الشهر الحرام والبلد الحرام، ثم استطرد فى براعة وحسن استهلال الداعية العظيم: «أيها الناس إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا فى شهركم هذا فى بلدكم هذا؟.

وكأنه يلخص رسالته فى هذه الكلمات الرائعة، سبحان الله وكأنه الآن يخاطبنا «لا تتحولوا إلى قابيل وهابيل فى كل بلاد العرب حيث يكره ويفجر ويقتل بعضهم بعضاً، ها هو النبى يناديكم عبر الزمان: لا يسفك بعضكم دماء بعض، إياكم واستباحة الدماء أو الأموال أو الأعراض.

إنها والله ملخص رسالته، فحقن الدماء المعصومة هو ميراث النبى الحقيقى، هو بداية الرسالة ونهايتها، وكأنه يعيش بيننا فى مصر والعراق وسوريا واليمن وأفغانستان، وكأنك يا سيدى تشير إلى المتفجرات التى تقتل المئات فى لحظة واحدة.

ما أهون الدماء المعصومة على الناس اليوم، وما أهون أكل أموال الناس بالباطل وانتهاك أعراضهم.

والغريب أن النبى (صلى الله عليه وسلم) فى آخر خطبته يكرر نفس المعنى ويلح عليه، وكأنه يدرك أن أمته لن تستجيب لندائه الأول فيقول فى ختام خطبته:

«تعلمون أن كل مسلم أخ للمسلم، وأن المسلمين إخوة فلا يحل لامرئ من أخيه إلا ما أعطاه عن طيب نفس منه فلا تظلمن أنفسكم».

واليوم يا سيدى رعيتك منقسمة على نفسها طلباً للسلطة ورغبة فيها وصراعاً عليها، وكل يكفر الآخر ويفسقه ويدمره معنوياً، تركوا دعوتك وهديك وتنازعوا على الحطام، فداعش تفجر مساجد الشيعة وتدمر الأسواق بمن فيها من البسطاء الذين لا شأن لهم بالصراعات السياسية ولا يجدون حيلة ولا يهتدون سبيلاً، والحشد الشعبى بفصائله يفجر مساجد السنة ويزرع الرعب ويحرق البيوت للبسطاء من أهل السنة وكلهم يزعم منك وصلاً وقرباً يا سيدى يا رسول الله زوراً وبهتاناً، ولو أنهم طبقوا سطراً واحداً من كلماتك المودعة فى يوم الحج الأكبر ما وصلوا إلى هذه المأساة، فالعراقى واليمنى والسورى والمصرى كلهم يكره بنى وطنه وجلدته ودينه دون أدنى مبرر، غاب العقل يا سيدى وغابت الضمائر. انقسمت رعيتك يا سيدى يا رسول الله على الدنيا ومغانمها، وبعضهم يزرع للآخر المتفجرات بعد أن يكفره، وبعضهم يطلق النار على الآخر فنحن فى الفتنة التى «لا يدرى القاتل فيها فيم قَتَل، ولا يدرى المقتول فيها فيم قُتل».

وفى الختام يلقى الرسول الكريم على صحابته بيانه النهائى «ألا إن كل شىء من أمر الجاهلية تحت قدمى موضوع»، ولكن بعضنا أعاد الجاهلية مرة أخرى.

إننا اليوم نعانق الجاهلية ولا ندوسها، فكلنا يتعصب لنفسه وحزبه وجماعته وفصيله ويدور معهم حيث داروا.

وقد يقتل ويشتم ويسب ويكفر ويلعن من أجل حزبه وفصيله، لقد كسرت لنا يا سيدى من قبل قيود الجاهلية وعصبيتها المقيتة، ولكننا يا سيدى عدنا نكبل أنفسنا بها من جديد.

حتى فى الحج يا سيدى نريد أن نأخذ معنا صراعاتنا وشعاراتنا السياسية، فى الحج الذى يستوى فيه الفقير مع الغنى وتذوب فيه الأجناس والأعراق وتختفى فيه الرتب والدرجات، ولا يعرف أحد مذهب الآخر أو وطنه ولكن بعضنا يريد أن يفسد آخر ما تبقى لنا من شعائر دينية خالصة مخلصة، لقد ضاعت هيبة المساجد من قبل بصراعات السياسة والحزبية المقيتة، فهل ندمر الحج آخر حصوننا.

فيا سيدى يا رسول الله هذه أمتك يكاد ينفرط عقدها.

لقد ضمت هذه الخطبة الرائعة أعظم ختام «إنكم ستسألون عنى؟ فماذا أنتم قائلون؟ فبكوا جميعاً قائلين: نشهد أنك بلغت».

لقد رددت عليهم يا سيدى يومها بكلمتك الرائعة وأنت تشير إلى السماء: اللهم فاشهد.

فعذراً يا سيدى، فالعيب فينا، أما أنت يا سيدى فقد شهدت لك جموع الصحابة يومها بالبلاغ الكامل وشهدت كل الأجيال بذلك، ونحن نشهد بذلك، ولكن ما حيلتنا وقد غلبتنا أهواؤنا؟ وقدمنا الخلق على الحق سبحانه، ولم ندر حول الشريعة ولكننا أصبحنا ندور حول ذواتنا وأغراضنا وأحزابنا ودنيانا وجاهنا.

وآه ثم آه من يوم لقائك يوم القيامة، واخجلا منك يا سيدى يا رسول الله يوم نلقاك وقد فرطنا كثيراً فى الأمانة العظيمة التى تركتها لنا.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف