هذا المناضل الأصولى اسمه كارل مكِنْتير، وهو قس فى كنيسة مشيخية بأمريكا ورئيس المجلس الدولى للكنائس المسيحية فى مواجهة حادة ضد مجلس الكنائس العالمى.
وإذا قيل إن الأضداد فى تماس فهذا القول يصدق على المجلسين، إذ التماس بينهما حدث فى أمستردام عاصمة هولنده فى أغسطس من عام 1948 حيث تم تأسيس المجلسين. وإذا قيل أيضاً إن ثمة وحدة وصراعا بين الأضداد فهذا القول أيضاً يصدق على المجلسين. والسؤال اذن: أين الوحدة الكامنة فى هذا التضاد؟ إنها كامنة فى السياسة الأمريكية الدولية التى دعا إليها وزير خارجية أمريكا جون فوستر دالاس فى كتابه المعنون « حرب أم سلام» (1950). ومفاد الدعوة أن العدو هو الحزب الشيوعى السوفييتى بزعامة ستالين أو هو بالأدق ستالين ذاته، وأنه لابد من القضاء عليه بطريقين: طريق سلبى هو طريق المعونات الاقتصادية والعسكرية، وطريق آخر ايجابى يكمن فى توحيد القوى الدينية والروحية فى القارات الثلاث للقضاء على الالحاد الذى يروج له ذلك الحزب ورئيسه.
هذا عن الوحدة فماذا عن التضاد؟
إن التضاد كامن فى أن مجلس الكنائس العالمى، فى رأى مكنتير، وثنى النزعة بنكهة اشتراكية. ومن أجل ذلك دعا إلى تأسيس المجلس الدولى للكنائس المسيحية لكى تكون نقية من الوثنية التى تتمثل فى حالة « الارتخاء» بين القوتين العظميين والتى يؤيدها مجلس الكنائس العالمى والتى كان قد أقرها الرئيس نيكسون فى عام 1972 عندما أبرم معاهدة مع الاتحاد السوفييتى للحد من الأسلحة النووية، ومن ثم لتخفيض التوتر.
وقد ازداد مكنتير قوة مع نشأة « حزب الأغلبية الأخلاقية» بزعامة قس من الكنيسة المعمدانية اسمه جيرى فولول فى عام 1979. ولم يكن هذا القس، فى البداية، على قناعة بتسييس الدين لأنه كان يرى أن مهمة الأصولى ليست فى أن يكون سياسياً إنما فى أن يكون رابحاً للنفوس. ولكنه بتأثير من مكنتير تحالف الحزبان، ومن ثم ازداد مكنتير قوة أكثر وبالأخص عندما ألقى الرئيس ريجان خطاباً أمام الجمعية الوطنية للانجيليين فى مدينة أورلاندو تحدث فيه عن «امبراطورية الشر» وكان يقصد بها الكتلة الشيوعية. وفى حينها قال مكنتير لريجان «إن الله يستخدمك بطريقة متفردة لم نعهدها من قبل». وفى هذا السياق أعلن مكنتير عن خطة لتأسيس السلام فى الشرق الأوسط إثر حرب الخليج فى عام 1990. إلا أن هذه الخطة كانت قد وردت إلى ذهنه فى عام 1978 وأوحى بها إلى كارتر. وكان الانجيل أساس هذه الخطة فى اطار الفهم الصهيونى المسيحى لمزمور 122 الذى جاء فيه أن « أورشليم المبنية كمدينة متصلة كلها»، وكذلك لسفر « خروج»، أية 12 « والتى تنص على أنه بعد إقامة استغرقت أربع مائة وثلاثين سنة خرجت جميع أجناد الرب من مصر إلى أورشليم». والمفارقة هنا أنه بعد أن وصل عدد أتباعه إلى عدة ملايين تخلوا عنه ولم يتبق سوى خمسون، إذ طالبوه بالتنحى عن الزعامة، إلا أنه رفض. وفى 19 مارس من عام 2002 مات مكنتير وعمره خمسة وتسعون عاماً.
والسؤال اذن: لماذا طالبوه بالتنحى؟ قيل أولاً إنه كان يناضل من أجل النضال وليس من أجل قضايا. وقيل ثانياً إن العمل معه يكسر القلوب، إذ هو عاشق لذاته ومتمركز حولها. وقيل ثالثاً إنه يحرض على تسييس الدين وهو أمر غير مرغوب. وهذا كله قيل فى كتاب عنوانه الرئيسى « مناضل أصولى» وعنوانه الفرعى « كارل مكنتير وتسييس الأصولية الأمريكية» (2016). وكان عام 1961 بداية التفاتى إلى كل من المجلسين: مجلس الكنائس العالمى والمجلس الدولى للكنائس المسيحية. قرأت عن الأول كتاب صدر عنه تحت عنوان « الكنائس والتغير الاجتماعى السريع» (1961) وباشراف بول أبرخت رئيس لجنة الكنيسة والمجتمع» وهو فى الوقت نفسه رئيس برنامج اسمه « المسئولية المسيحية المشتركة: نحو مناطق التغير الاجتماعى السريع». وبالذات منطقة الشرق الأوسط. وأهمية هذا البرنامج تكمن فى أن التغير الاجتماعى هو الوسط الذى يعمل من خلاله الله لكى يوقظ العالم من جديد. وهذه العبارة تعنى أن الله هو الحاكم لهذا التغير، وهو معنى قريب من معنى الحاكمية لله عند سيد قطب. ومن هنا نشأت علاقة عضوية بين مجلس الكنائس العالمى والمركز الاسلامى الذى أسسه سعيد رمضان فى عام 1961 فى جنيف، وهو يقع بجوار مجلس الكنائس العالمى. وقرأت عن الثانى كتاب صدر عن رئيسه كارل مكنتير تحت عنوان « موت كنيسة» (1967) وكان يقصد بها الكنيسة المسيحية المتحدة. وقد ماتت لأنها فى رأيه أيدت انتخاب يوجين كارسون بليك سكرتيراً عاماً لمجلس الكنائس العالمى، ومأساة هذا الرجل أنه كرس مواهبه للترويج للالحاد واحتضان الشيوعيين، وبذلك ألغى الصراع الحاد بين الأصوليين والليبراليين. وبعد ذلك تواصلت قراءاتى ليس فقط فى الأصولية المسيحية إنما فى الأصوليات الدينية بوجه عام. وفى عام 1995 أصدرت كتاباً عنوانه «الأصولية والمسيحية فى الشرق الأوسط» كان ثمرة ندوة عقدتها فى عام 1988 ببريتون بانجلترا. وخلاصة القول أنك لن تستطيع فهم الصراعات فى هذا الزمان بمعزل عن الأصوليات الدينية لأن الارهاب أعلى مراحلها.