المصرى اليوم
جمال الجمل
شعب الرصيف (نص بلا غاية)
(1)
* هل تذكر عدد الأفلام السينمائية التي شاهدتها في حياتك؟
- بالعدد، لا طبعاً، لأنهم كتير.

*طيب بتتفرج على الأفلام كويس؟
- طبعا.
* يعني لو سألتك عن حاجة في الأفلام التي شاهدتها ممكن تفتكرها؟
- طبعاً.. اسأل.
* طيب ما هي أهم الأفلام التي تعاملت مع «الرصيف»؟
- رصيف؟.. رصيف إيه يا عم اللي هفتكره في السينما.. انت بتهزر؟

(2)

منذ أكثر من 12 سنة فكر الصديق الراحل جمال الغيطاني في إصدار أعداد خاصة من صحيفة «أخبار الأدب» عن موضوع واحد، واختار موضوعات لها دلالات ثقافية وتراثية وتاريخية، أو مهن مهددة بالانقراض، أذكر منها القطار، والحمام، والصيف، والبوسطجي، والرصيف».

(3)

نظراً لاهتمامي بالفنون، فقد كنت أكتب عن طريقة تناول السينما للموضوع الذي يتناوله العدد الخاص، وقبل أيام كنت أجلس على شاطئ البحر وحيداً، وأتأمل علاقتي بالعالم، فتذكرت فيلم «الإفطار في تيفاني»، وقادتني افكاري إلى تدوين ملاحظة صغيرة تتضمن عنوان مقال نبتت فكرته في رأسي، وكان العنوان هو: «لقد وجدت للقط اسماً»

(4)

بعدما عدت إلى القاهرة، ومع أول محاولة للبحث عن الفيلم، وجدت في نتائج البحث نص مقال لي منشورا في «أخبار الأدب» بتاريخ 14 مارس 2004 بعنوان: «الرصيف في السينما: دور بطل.. بأجر كومبارس»، وسألت نفسي: ما علاقة المقال بالفيلم؟ وفتحت الملف لإطفاء علامة الاستفهام التي أشعلتها المفارقة، ووجدت نفسي أقرأ المقال الطويل باهتمام، وأتذكر حالي وأنا جالس قبل أيام على هامش العالم، لا أرى أحداً إلا الموج، ولا يراني أحدٌ إلا الله، واتضح لي أن الشاطئ الذي كنت أجلس عليه لم يكن إلا رصيفاً للتأمل.. بل رصيفاً للعالم بكل ما فيه، وربما كنت أنا أيضا في ذلك الوقت رصيفاً لشارع حياتي الطويل، فماذا سيكون الرصيف في النهاية إلا إجازة من وظيفة وصخب الشارع، فالطرق هي المسير، والأرصفة هي الانتظار، الطرق هي الحركة والتنفيذ والصراع، والرصيف هو الفرجة والتأمل والتسكع، مرتادو الطرق يلهثون وراء أهداف، ومرتادو الأرصفة يتسكعون بلا هدف، بل بينهم من يكون الرصيف هو وطنه، ومقامه، ومتعته، وحياته ذاتها.!

(5)

أين الرصيف؟

كثيرا ما كنت أسأل أصدقائي مستنكراً اغتصاب التجار للرصيف، ومندداً بعشوائيته، وإهماله، وفي كثير من الأحيان بغيابه تماما، أو حبسه خلف أسوار غبية من الحديد القبيح، بالأمس بدت لي هذه الملاحظات أكثر إنسانية وصدقاً من أي وقت مضى، فهمست في نفسي: ما لي أشعر كأن الرصيف إنسان؟ وبلا خجل كررت الهمسة بصراحة أكبر وسألت نفسي بصوت مسموع: ما لي أشعر كأنني رصيف؟ كأننا جميعاً.. أرصفة.. مهمشون.. نتسكع... ننتظر على جانب طرقات مخيفة لا يتيسر لنا أن نمضي فيها، لأننا بلا سيارات، وبلا أموال، والمؤلم أكثر أننا لا أهداف!

(6)

ترحمت على الغيطاني، وأدركت أننا نفقد ولا نعوض، فقدنا جمال (برغم ما كان بيننا من نقاش يصل أحيانا إلى درجة الخلاف والقطيعة لأسابيع وشهور، لكنها عادة تنتهي بتواصل أعمق ومحبة أكبر وأطهر)، فقدنا «أخبار الأدب» وإن كانت لا تزال تتسكع مثلنا على أرصفة الانتظار، فقدنا الأفكار المبتكرة والحماس في تنفيذها، والتنافس الحميم الذي صنع جيلا من المثقفين المستقلين الذين اختاروا الحياة على الرصيف خارج حظائر السلطة، لكن بقاء ذلك الجيل على الرصيف صار مملاً، بلا فرجة ولا متعة ولا تأمل، لأن الرصيف الجديد (في أزمنة التشوه) تحول إلى رصيف عشوائي بائس، لا يتسكع عليه المثقفون ولا العشاق، بل يحتله المخبرون، والمتسولون، والمتحرشون، وباعة السلع المستوردة الرديئة، وصور الرئيس.

(7)

لا أعرف لماذا كتبت كل هذا الكلام عن الرصيف؟ ولا كيف أنتهي منه؟ ولا ماذا أقصد في نهاية مقالي؟ ويخيل إلى أن هذا المقال أيضا «رصيف» لقضية ما لا تعنيه، ولا يهتم بما يدور فيها، فهو مجرد رصيف، لا يحتاج سكانه إلى تركيز سائقي السيارات، ولا إلى نفيرهم المزعج في حرب إفساح الطريق، حتى لو بإفزاع المارة وتوجيه السباب لكائنات الرصيف اللا مبالية.. المنتظرة، المتفرجة.. الحالمة بمباهج فضفاضة غير معلومة بدقة، وربما لهذا لم يعد يعنيهم أن تأتي الأحلام أو لا تأتي، لأنهم يشعرون أنهم (في مكانهم هذا على الرصيف) صاروا أكثر إنسانية وأماناً من البراجماتيين المتعجلين الغاضبين، الذين يملأون الطرقات زحاما، وتلوثاً، وبصقاً، وسباباً بذيئا لغيرهم من المنتظرين والعابرين.. لشعب الرصيف.

(8)

قد أواصل الحديث عن الرصيف، وقد لا أواصل، فلا وعود على الرصيف، ولا غد، ولا تقاليد، ولا غايات.. على الرصيف تمضي الحياة بطريقتها العفوية، رافعة شعار: المجد للمنتظرين.

جمال الجمل
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف