الأهرام
احمد عبد المعطى حجازى
الإسلام الأوروبي.. أندلس جديدة!
حين نتحدث عن الإسلام فى العالم، يجب أن نميز بين وجود الإسلام ووجود المسلمين.وجود المسلمين تحكمه الشروط الواقعية التى تحكم وجود البشر جميعا،
وتحدد لكل أمة أو جماعة مكانها المتقدم أو المتخلف فى حضارة العصر، وفى نظمه السياسية، وأوضاعه الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، أما وجود الإسلام فلا تحكمه إلا العقائد والقيم التى يقوم عليها، ويبشر بها.

فإذا كانت أوضاع المسلمين داخل بلادهم وعلاقاتهم بغيرهم من الأمم والجماعات هى المرجع فى الحديث عنهم، فالمرجع الأول فى الحديث عن الإسلام هو الإسلام نفسه، من حيث هو معتقدات وأفكار وتصورات مفتوحة فى كل زمان ومكان، لكل من يقترب منها، ويقتنع بها، ويطمئن إليها، ويجتهد فى تحويلها إلى نشاط حى يجسدها من ناحية، ويلبى به حاجته لإجابات على أسئلته يعرف بها مكانه فى العالم، ويتمكن من صنع مستقبله، وتحديد مصيره، وتحقيق السعادة التى يرجوها لنفسه ولجماعته، وفى هذا الضوء نميز بين وجود الإسلام فى أوروبا، ووجود المسلمين.

وجود المسلمين فى أوروبا حاضر مشهود نراه ونلمسه بإيجابياته وسلبياته، مهاجرون أصبحوا يعدون الآن بعشرات الملايين من بلاد كثيرة، وأجيال مختلفة بدأوا يتوافدون على أوروبا خلال القرن الماضي، لكن أعدادهم ظلت فى حدود العشرات والمئات والآلاف هنا وهناك، إلى أن توالت الأحداث والتطورات التى شهدتها بلاد المغرب العربى والهند وإيران وأفغانستان، ثم العراق وسوريا فى هذه السنوات الأخيرة التى صارت فيها الهجرة بالملايين.

ألمانيا ـ على سبيل المثال ـ لم تكن تضم من المسلمين إلا أعدادا قليلة، معظمهم من الأتراك، وقد تضاعفت هذه الأعداد حتى وصلت الآن إلى أكثر من مليون، أما فرنسا فقد بلغ عدد المسلمين فيها ـ العرب والأفارقة ـ أكثر من ستة ملايين، ووصل عددهم فى أوروبا كلها إلى أكثر من خمسين مليونا، ينتمون لبلاد وثقافات وأجيال مختلفة، فهم عرب وأتراك آسيويون وأفارقة، منهم من وصل بالأمس، ومنهم من ولد فى أوروبا لآباء ولدوا هم أيضا فيها، وعاشوا ومارسوا النشاط العملى الذى أهلتهم له استعداداتهم وقدراتهم، ومن الطبيعى أن يتمثل هذا الوجود فى تجمعات ومؤسسات ومظاهر تتسع لنشاط المهاجرين المسلمين، وتعبر عن نظرتهم للحياة، وعن ثقافتهم، أو بالأحرى ثقافاتهم التى حملوها معهم، فضلا عما عرفوه فى البلاد التى حلوا فيها من نظم وقيم وقوانين وتقاليد تختلف عما عرفوه فى بلادهم، فهم يواجهونها بصور مختلفة تعبر عن معتقداتهم، وتتوافق مع مصالحهم وارتباطاتهم، وتتأثر بالظروف التى يمرون بها فى أوروبا، أو تمر بها مواطنهم الأصلية، وتدفعهم للرفض، أو تشجعهم على القبول.. فى المراحل التى أعقبت انتهاء الحرب العالمية الثانية، وسقوط النظم الفاشية والنازية، واشتعال الثورات الوطنية فى المستعمرات البريطانية والفرنسية، ومن بينها البلاد العربية والإسلامية، فى هذه المراحل نشأ مناخ جديد فى العالم، فتح أمام الأوروبيين وأمام العرب أبواب مستقبل جديد، تمثل فى الاشتراكية التى اندفع الأوروبيون فى طرقها المختلفة، وتمثل للعرب فى الاستقلال الوطنى الذى أعاد لهم ثقتهم فى أنفسهم، وشجعهم على الاقتراب من غيرهم من الأوروبيين وغير الأوروبيين، والانتفاع بخبراتهم فى مجالات الحياة المختلفة، غير أن الاشتراكية التى تحولت فى شرق أوروبا إلى معسكر اعتقال واسع، خيبت آمال الأوروبيين.

كما أن النظم السياسية التى أقامها العرب والمسلمون بعد الاستقلال، سقطت فى أيدى الطغاة العسكريين والمدنيين الذين ساقوا بلادهم فى مغامرات جاهلة عمياء، انتهت بها إلى هزائم ساحقة هزت ثقتهم فى أنفسهم، وأصابتهم باليأس، وأغلقت فى جوههم طرق المستقبل، فلم يجدوا لهم ملجأ إلى الماضى فردوسهم المفقود الذى ارتدوا إليه يبحثون فيه عن الأمان، وهذا هو المناخ الذى يعيش فيه المسلمون الآن فى بلادهم وفى أوروبا، التى يحاول فيها اليمين الفاشى أن يستعيد مكانه المفقود.. مناخ مضطرب مخيف يدفع المسلمين للهجرة من بلادهم التى يفقدون فيها حياتهم إلى بلاد ينقطعون فيها عن ماضيهم دون أن يطمئنوا لمستقبلهم، فهم يعيشون كما قلت من قبل بين بين، خارج المكان، وخارج الزمان، فى الأعراف التى لا تفصل بين جحيم وفردوس، وإنما تفصل بين جحيم وجحيم، يعيشون فى الجيتو الإسلامى منعزلين يرفضون الاندماج فى مجتمعات الأوروبيين التى تبادلهم رفضا برفض، خاصة حين تتحول مطاعم المدن الأوروبية ومسارحها وشوارعها وكنائسها إلى ساحات للموت، يصول ويجول فيها الإرهابيون المسلمون الذين ولد بعضهم فى أوروبا، وتعلم فى مدارسها، وحمل جنسياتها، وظل مع هذا كله مستعدا لأن يفخخ جسده ويفجره فى أجساد الرجال والنساء والأطفال الفرنسيين والبلجيكيين والأمريكان والإسبان، وهذا ما يمكن أن نقوله عن وجود المسلمين فى أوروبا.

هل معنى هذا أن كل المسلمين الموجودين فى أوروبا يعيشون فى هذا الجحيم، ويعادون الأوروبيين، ويرفضون الاندماج فى مجتمعاتهم؟

الجواب هو النفى القاطع، لأن الذى يرفض الاندماج يخسر ما يترتب عليه من حقوق، ولأن المجتمعات الأوروبية بحكم قوانينها مفتوحة لمن يريد أن يكتسب عضويتها مادام كان مستعدا لاحترام هذه القوانين، وهى شروط تساعد على التعايش بين الأجناس والثقافات المختلفة، وتغرى أغلبية المسلمين بالاندماج الذى لا نستطيع معه أن نميز بسهولة بين المسلم وغير المسلم، لأن الدين فى أوروبا شأن خاص، وتبقى الأقلية التى تحتكر تمثيل الإسلام بالحجاب والنقاب والبوركيني!

لكن الإسلام ليس حجابا وليس نقابا، وليس ملكية خاصة لجماعة أو دولة أو عصر أو بلد، وإنما الإسلام رسالة موجهة لكل البشر فى كل البلاد، وفى كل العصور، تجيب على أسئلتهم، وتنير لهم طرقهم، فبوسع أى إنسان أن يستقبل هذه الرسالة الموجهة له، وأن يفهمها على النحو الذى يتفق مع عقليته وظروفه، ويحفظ له حقوقه، ويحقق مصالحه.

من حق الأوروبيين أن يعتبروا العقيدة الدينية شأنا خاصا لا حق لأحد أن يحاسب فيه غيره، ومن حقهم أن يفصلوا فصلا تاما بين الدين والدولة، وأن يقدسوا حرية التفكير والتعبير والاعتقاد، والبحث العلمي، والإبداعين الأدبى والفني، وألا يميزوا بين دين ودين، وأن يساووا بين الرجل والمرأة مساواة كاملة. من حقهم ـ باختصار شديد ـ أن يكون لهم إسلامهم الذى يفهمهم كما يفهمونه، ويستجيب لهم بقدر ما يستجيبون له.

هذا الإسلام الأوروبى سيكون أندلسا جديدة يستطيع بها الإسلام أن يستعيد مكانه الذى فقده فى أوروبا، ويستطيع به المهاجرون المسلمون أن يندمجوا فى المجتمعات الأوروبية، ويستطيع به الأوروبيون أن يسهموا من جديد فى حضارة الإسلام.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف