التحرير
أحمد بان
إسلام بلا مذاهب
في تلك الأيام المباركة في يوم عرفة الذي يقف فيه الحجيج على عرفة، يدعون ربهم، يلبون نداء الخليل إبراهيم عليه الصلاة والسلام في زى واحد تجمعهم قبلة واحدة يرددون دعاء واحدا، لبيك الله اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك، يبدو التسليم للحق تبارك وتعالى وتبدو وحدة المسلمين في أبهى مظاهرها، تختفي المذاهب والنحل والفرق والفصائل والتباينات في كل شيء فيذوب بياض القلوب في بياض الثياب.

منذ أكثر من ستة عقود وتحديدا في العام 1960 أصدر العلامة الدكتور مصطفي الشكعة، مؤلفه القيم، إسلام بلا مذاهب، الذي يقول في مقدمته وهو ينعى هذا الماضي المشرق للأمة حين يقارنه بحاضرها فيقول "هو إذن ماض مشرق مضيء قوي عزيز، وهو أيضا حاضر خاب ضعيف مستذل معتدى عليه وكان علي أن أتأمل الأسباب التي أدت إلى هذه المفارقات الضخمة المؤسفة بين موقف المسلمين وحالهم في أمسهم ويومهم، ولم يطل بي التفكير فسرعان ما اهتديت إلى أن ضعف المسلمين جاء من تفرق كلمتهم وشتات شملهم، نتيجة لتفرق المذهب والعقيدة فمذاهب المسلمين المختلفة كانت الباب الذي دخل منه الخلاف، واستغل الاستعمار هذه الثغرة فوسعها وباركها كما يبارك الشيطان فعل الكبائر: هذا إمامي وذاك زيدي ومنهم من غلا في مذهبه غلوا كبيرا، فهذا إسماعيلي وذاك درزي والآخر علوي، ثم نلتفت مرة أخرى فنجد أيضا بعض رجال السنة يختلفون، ونجيل الطرف بعد ذلك فنجد هذا إباضيا والآخر يميل للاعتزال وننظر إلى الإسماعيلية نفسها فنجد فيها النزارية الأغاخانية والمستعلية البهرة، ثم لا نكاد نلتقط أنفاسنا حتى نلمح بعيدا في الهند جماعة الأحمدية أو القاديانية وهي تنسب نفسها للإسلام ويصلح فريق منها ويضل فريق، مذاهب مختلفة وعقائد متعددة في ظل دين واحد ورسول واحد يستغلها ذوو النيات السيئة وأصحاب المقاصد الدنيئة في ضرب المسلمين بعضهم ببعض".

قال الدكتور الشكعة هذا الكلام قبل عقود من اشتعال الصراع في أرض الشام والعراق، سواء في الحرب الإيرانية العراقية التي أكلت أكباد الشعبين المسلمين وبددت مقدراتهما، أو في الحرب التي اشتعلت بين السنة والشيعة والتطهير العرقي والمذهبي الذي أنتج في النهاية داعش وعصابات الحشد الشعبي، وتدحرجت كرة الخلاف لتصل الأمور إلى أكبر حالة استقطاب ديني ومذهبي في التاريخ.

وفي أجواء هذا الشحن الطائفي والمذهبي يحسن أن نستذكر ما ذكره هذا العلامة صاحب الفضيلة الأكبر شيخ الأزهر الشيخ محمود شلتوت، شيخ الأزهر في مقدمة الكتاب، مؤكدا وحدة الأمة بالقول "فإن الله سبحانه طلب من هذه الأمة أن تتوحد كلمتها وألا تكون شيعا وأحزابا يضرب بعضها أعناق بعض (وأن هذه أمتكم أمة واحدة) فكل عامل على لم شملها ساع إلى تأليف قلوب أبنائها فهو مؤمن حقا مجاهد في سبيل أنبل غاية عني بها الإسلام، وهي تأليف القلوب وتوحيد الأهداف وأما أولئك الذين يورثون العداوة والبغضاء فهؤلاء هم الذين يسعون في الأرض بالفساد وواجب المسلمين المخلصين أن يقفوا لهم بالمرصاد وأن يبصروا الأمة بهم ويكشفوا لهم أهدافهم وسوء غاياتهم".

لنتأمل أحوال حكامنا وأين يقفون من هذه الفريضة، فريضة وحدة الأمة ووحدة مصيرها، والرجل في مقدمته يبقى حكيما فاهما أن التقريب بين المذاهب لا يعني جمع المسلمين على مذهب واحد فيقول "ليست الدعوة إلى تقريب المذاهب الإسلامية دعوة بقاء مذهب على حساب مذهب، ولكنها دعوة إلى تنقية المذاهب من الشوائب التي أثارتها العصبيات والنعرات الطائفية وأذكتها العقلية الشعوبية".
نعم نشأ الخلاف على أرضية سياسية وشعوبية وقبلية، وهو ما يحرره الكاتب في سهولة ويسر، عندما يحرر كيف تطور واقع المسلمين سياسيا من واقع كانت العقيدة الإسلامية مستقرة في قلوب المسلمين في عهد النبى صلى الله عليه وسلم، قبل أن تحاول الفتنة أن تطل برأسها عقب وفاته في صورة خلاف على الزعامة بين المهاجرين والأنصار، ولكن سماحة هذا الدين وعميق جذوره في قلوب المؤمنين والبعد عن المطامع الذاتية، كل أولئك ساعد على وأد الخلاف، حينما اعترف المهاجرون بفضل الأنصار ورددوا رأي رسول الله، حين يقوم زعيم الأنصار سعد ابن عبادة ويقول عن رضى وإيمان للمهاجرين: "نحن الوزراء وأنتم الأمراء"، فتمر الخلافة إلى أبي بكر فعمر ويظل أمر المسلمين هادئا حتى يحدث الشقاق إزاء سياسة عثمان بن عفان كما يذكر الشكعة، فيقول "وتنتهي الأمور بمأساة قتله وهو يتلو كتاب الله فبايع أكثر المسلمين علي بن أبي طالب الخليفة الرابع أميرا للمؤمنين، ولكن شبح الأطماع الشخصية وبقايا العصبية القبلية تطل برأسها لأول مرة في الإسلام، فينقسم المسلمون إلى قسمين أو حزبين حزب ينتصر لعلي وحزب ينتصر لمعاوية، أو بالأحرى حزب يتشيع لعلي وحزب يتشيع لمعاوية وبمرور الزمن أصبحت لفظة التشيع عنوانا ودلالة لأنصار علي وأبنائه وأحفاده من بعده، وكانت الشيعة في أول أمرها رأيا سياسيا ليس أكثر كما كانت دعوة الأمويين للخلافة وحصرها في معاوية رأيا سياسيا أيضا، ويستشري الخلاف بين الفريقين ويجري التحكيم المعروف فلا يرضى به جناح من حزب علي فيخرجون عليه ويكونون حزبا ثالثا يعرف بالخوارج، إذن فقد كانت الفرق الإسلامية عند نشأتها أحزابا سياسية وليست فرقا دينية والاختلاف بينها لم يكن اختلافا في صلب العقيدة الإسلامية، وإنما كان خلافا في الرأى حول طريقة الحكم واختيار الحاكم".

ولا يزال المسلمون مختلفين حول طريقة الحكم، لم يحسنوا التعلم من تجربة بشر آخرين قد لا تجمعهم لغة أو دين أو حتى عرق، وعلى الرغم من ذلك أمكنهم أن ينجحوا في التعايش المشترك ويهضموا التنوع في معتقداتهم وأفكارهم في دولة واحدة تحت راية المواطنة التي تجعل الجميع أمام القانون سواء.

كتاب إسلام بلا مذهب صحيحة عاقلة انطلقت قبل عقود لتقول إن المذاهب أضعفت الإسلام، وإن هذه الفُرقة القاتلة وتلك الدماء التي أريقت على مر القرون لم تفد المسلمين في شيء، بل نخرت عظامهم وأضعفت مقاومتهم لتيارات الغدر والاستعمار، وهو ما يؤكده في نهاية كتابه بالقول "ونحن نعتقد مخلصين أنه لو حسنت النيات وألقيت رواسب الماضي البعيد جانبا، لخرجنا من هذه المحاولات صفا واحدا لا يفرق جماعة من جماعة، إلا كما يحدث من خلاف بين أئمة المذهب الواحد، تلك هي فكرة الإسلام بلا مذاهب، نادينا بها في ظل هذه المدرسة، ولم يكن هناك من دافع إليها سوى ما لمسناه من الشر والضر والأذى الذي يقع على المسلمين متفرقين، والخير والنفع والعزة التي يعيش في ظلها المسلمون ما كانوا متكاتفين متحدين، هذا فضلا عن أن لب العقيدة واحد ومصدرها واحد وإلهها واحد ورسولها واحد".

اللهم وحد أمتنا وأزل الفرقة عن سمائنا، لنلبي نداءك معا في الحج متحدين فيه وفي غيره من الفرائض إنك على كل شيء قدير.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف