الوطن
سهير جودة
شائعات سوداء.. وحقائق خرساء!
كنيران مستعرة تخرج أقراص خبز الشائعات ساخنة، من أفران منتظمة، لا تتوقف عن إنتاج مخبوزات مختلفة وشهية وجذابة من الإشاعات، تلوكها الألسن وتهضمها العقول.

يتداولها الناس وكأنها اليقين فى ظل غياب كامل أو تجاهل تام من الحكومة، وكأنها لا ترى ولا تسمع، أو كأنها بلا وجود لها. وبعد أن تستقر الشائعة تخرج الحكومة من الكهف، وتأخذ استراحة من الغيبوبة، وتثبت أنها ثابتة فى موقعها كرد فعل للدفاع والتبرير، لكنها لا تفعل ما يغلق مسام الشائعات الواسعة، ولا تقلل إنجابها وتكاثرها من رحم الكراهية لهذا الوطن.

الحكومة تكتفى بتقرير يخرج من مركز المعلومات فى الظل، لا يعرف به أحد وكأنه تحصيل حاصل، بينما السنة حرب الشائعات تهطل بغزارة وتستهدف أشياء محددة، أهمها التأكيد أننا فى حالة انهيار اقتصادى عظيم، مع التشكيك فى سياسات الدولة والتأكيد أن الفساد هو صاحب السلطة والسطوة، وأننا دولة من الفاسدين.

أما نحن، فنستقبل هذه الشائعات الممنهجة بكثير من اليقين وقليل من الشك، حتى عندما يلقون علينا نيراناً غير منطقية، كتنازل مصر عن جزيرة لها فى اليونان أو قطع الغاز عن المصانع، أو الكشف على أثداء السيدات.

هذه الشائعات المسمومة والحكومة غائبة، أو مغيبة. والنتيجة استمرار سعار هذه الحرب، بينما الحكومة تظهر ويبين عليها كل علامات الارتباك وعدم الأمان والدفاع، لكن بعد اندلاع نيران الأزمة أو الكارثة.

قصه محافظ القاهرة أحدث دليل على الغيبوبة، فبمجرد حلف المحافظين اليمين تم تداول قصص عن فساد المحافظ، وعلى مدى خمسة أيام كاملة، كانت جغرافيا الفضاء الإلكترونى مزدحمة بكراكيب هذا الفساد، ثم انتقلت تلك القصص إلى الأرض ليصبح الرأى العام على يقين واحد، فى ظل غياب تام وموات من أى مسئول بمن فيهم المحافظ نفسه.

خمسه أيام كانت قادرة على إثبات القصة واشتعال النيران، قبل أن تحدث الإفاقة والعودة من الموت، لتعلن بعض الجهات الرسمية، أن هذه المعلومات عارية تماماً من الصحة.. فلماذا كل هذا الصمت؟

هل صمت الحكومة فضيلة؟

الحكومة دائما لا تبادر، وكأن المبادرة رجس من عمل الشيطان.. وكأنها تستحى من إظهار التقارير التى تنفى أو تؤكد معلومة ما، وتكره المبادرة بإذاعة تقاريرالرقابة الإدارية فى ملف أى مسئول.

وفى حالة مثل تغيير ستة من المحافظين، كان ينبغى أن يظهر رئيس الحكومة ويعلن لماذا تم التغيير؟ وما الحيثيات التى تم بناء عليها اختيار المحافظين الجدد؟ وما المهام المكلفين بها؟

المبادرة بالمعلومات قادرة على سد ثغرات كبيرة فى بلد مخترق ومستهدف، تسود فيه حالة هوس عام أصابت الجميع: إعلاماً ونخبة ونشطاء وشعباً.

فى ظل غياب المعلومات تصبح الشائعات حقيقة مؤكدة.. فماذا تنتظر الحكومة لتتخذ قراراً فورياً بأن يعقد المتحدث باسم مجلس الوزراء مؤتمراً صحفياً يومياً يرد فيه على أى شائعة تظهر ويجيب فيه عن أى أسئلة يتداولها الرأى العام؟

هنا تستبق الحكومة انتشار الشائعة وتتخلى عن موقع رد الفعل المأزوم.. بل إنه من اللازم الآن وأكثر من أى وقت مضى أن يكون هناك مؤتمر صحفى أسبوعى يعقب اجتماع مجلس الوزراء، يتحدث فيه الوزراء الخدميون إلى جانب أى وزير يخصه أمر على مستوى عمله، مثار جماهيرياً.

مثل هذا الاتجاه فى المبادرة بالمعلومات الصحيحة فى وقتها، يقضى على الجزء الأكبر من حالة التشوش والأزمات التى يمكن أن تنفجر شعبياً نتيجة المعلومات المغلوطة أو الناقصة أو الغامضة.. حتى لا تبقى الحكومة محبوسة فى خندق الدفاع منغلقة على أزماتها.

تدفق المعلومات بشكل واضح ومحدد ومنتظم، يجب أن يكون أولوية فى عمل الحكومة، حتى تكون فى موقف الندية مع ماكينة الشائعات المنظمة والمتعمدة، التى تهدف إلى إغراق المجتمع فى مياه آسنة من الإشاعات والشك.

المثير أن المهاويس، أياً كان اتجاه الهوس، وبمن فيهم أشد أنصار الدولة، عادة ما يتعاملون مع بعض هذه الشائعات على أنها حقائق، فتبدأ حفلات الهرى، فى الوقت الذى تواصل فيه العقول المنظمة ضخ الفيروسات، التى يبتلعها الملايين، بينما صمت الحكومة يؤكدها ويضخمها ويحولها إلى أزمات.

تجاهل الحكومة وصمتها كارثة وخطيئة، والمداخلات التليفونية لمسئول هنا أو هناك ليست هى الحل. وفيما يعتبره الجميع حرباً شاملة يخوضها الوطن، لا يمكن أن تبقى الحكومة فى خندق الدفاع طوال الوقت، فالدفاع المستمر معناه هزيمة حتمية.

تدفق المعلومات بشكل واضح ومحدد ومنتظم، يجب أن يكون أولوية فى عمل الحكومة، حتى تكون فى موقف الندية مع ماكينة الشائعات المنظمة والمتعمدة، التى تهدف إلى إغراق المجتمع فى مياه آسنة من الإشاعات والشك.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف