التحرير
شعبان يوسف
يوسف وهبى يلعب المصارعة فى حارة الهدّارة
التاريخ لا يروى من طرف واحد، ولا تعرفه الأجيال وتدرسه من مصدر غير موضوعى، فدوما هناك من لهم مصالح خاصة فى إخفاء بعض الأحداث، وهناك من يعمل على إبراز بعضها الآخر، وبالتأكيد عندما يكتب طرف ما سيرته الذاتية فلا بد أنه يتغاضى عن الأمور التى تدينه أو تقلل من بطولته، وقليلة جدا هذه النماذج فى السيرة الذاتية التى تعمل بحياد موضوعى، أو حياد تام، وربما يكون كتاب «الأيام» لطه حسين هو النموذج الأول والأشمل والأكثر حيادية فى ذلك الزمان القديم نسبيا، والذى راح فيه طه حسين يسرد وقائع حياته التى جعلت منه بطلا واقعيا، وليس بطلا أسطوريا على الطريقة الإغريقية، وربما نجد أن كتاب «أوراق العمر» للدكتور لويس عوض هو النموذج الأمثل فى الزمن الحديث، الذى أفرط فى الاعترافات، وهو كتاب يندرج تحت بند الاعترافات أكثر من إدراجه فى كتب السيرة الذاتية.

هذه المقدمة القصيرة تقرر أن التاريخ لا يروى من طرف واحد أو من الطرف المنتصر، وكذلك الطرف المهزوم، فكل هذه الأطراف لا تملك الحياد الموضوعى، ولذلك لا بد من قراءة التاريخ من كل الزوايا، ومن كل الأطراف، وهنا تكون مهمة المؤرخ صعبة إلى حد كبير، عندما يجد أحداثا يتم محوها، بينما يحرص آخرون على إبرازها.

وهذه الانحيازات التى خبرناها فى كل الكتابات والأخبار والسير الذاتية ليست ظاهرة عجائبية، ولكنها ظاهرة طبيعية جدا، ولا أحد يستطيع أن يكون مجردا تماما من ذاتيته الأمّارة بالنرجسية والزهو والفخار الذى يصل إلى حد الغرور، والذى بدوره ينال من آخرين.

وهذا الانحياز للذات وفضائلها وعلوها ينطبق على الساسة كما يشمل الكتّاب والأدباء والفلاسفة، ويلتصق بشكل كبير بأهل الفن، فى السينما والمسرح، خصوصا هؤلاء الذين أسّسوا وكانوا فى بدايات الظواهر الفنية، ولا بد من التعامل مع ذكرياتهم بحذر ما، ليس لأنهم كذّابون ولكن لأنهم منحازون لذواتهم بشكل طبيعى.

ومن بين هؤلاء فنان المسرح الكبير يوسف وهبى، ولا يوجد فنان مسرح أو سينما كان فاعلا فى النصف الأول من القرن العشرين إلا كان يوسف وهبى رقما مؤثرا فى حياته الفنية، بشكل مباشر أو غير مباشر، أو كان قد عمل معه أو فى فرقته، أو تتلمذ على أسلوبه، أو كان غير ذلك، يعمل فى فرقة أخرى، وتتلمذ تحت رعاية آخرين مثل نجيب الريحانى أو على الكسار أو غيرهم.

والمدهش أن بعض من أدلوا بآراء سلبية عن ظاهرة ما، أو عن فنان بعينه فى مقتبل أعمارهم، عادوا مرة أخرى وأشادوا بتلك الظاهرة نفسها، أو بذات الفنان الذى هاجموه منذ زمن، وهذا ما حدث بالنسبة إلى الكاتب والناقد الفنى محمد التابعى، عندما كان يهاجم يوسف وهبى بضراوة فى عشرينيات القرن الماضى، ثم عاد وأشاد به فى مطلع عقد الستينيات عندما حصل على جائزة الدولة كل من عبد الوهاب وأم كلثوم، وتم إغفال يوسف وهبى.

هنا انبرى التابعى ليتحدث عن دور يوسف وهبى منفردا، وعن دوره بالمقارنة بآخرين من الفنانين، وعلى رأسهم عبد الوهاب وأم كلثوم، وأوضح أن يوسف وهبى كان يخوض حالة تأسيس المسرح فى مصر، بعد أن تسلم رايته من جورج أبيض، وكان عبد الوهاب وأم كلثوم ما زالا فى المهد الفنى، ولم يكونا قد حققا أى إنجاز، لذلك فمن الواجب على هذه الدولة أن تقوم بتكريم يوسف وهبى أولا، فهو الأستاذ الذى تتلمذ على يديه كل الفنانين والفنانات الذين قادوا نهضة المسرح فى مصر والعالم العربى.

وكتب التابعى فى 15 أبريل 1960 فى صحيفة «الأخبار» مقالا تحت عنوان «الرجل الذى رفع لواء التمثيل زهاء أربعين عاما.. نرجو أن يكون له نصيب»، يقول التابعى: «يوسف وهبى هو أول من أمّن الممثلات والممثلين على عيشهم، وأجرى عليهم مرتباتهم ومصدر رزقهم طول السنة، وكان الممثلون من قبله يعملون شهورا قليلة ويتعطلون من العمل شهورا كثيرة.. وهو كذلك الذى دعم صناعة السينما فى مصر.. وإذا كانت عزيزة أمير أول من أقدم على إخراج فيلم عربى، فإن يوسف وهبى كان أول من نظم الإخراج والإنتاج وغامر ووضع رؤوس الأموال الكبيرة فى صناعة السينما».

ولا نريد أن نسترسل فى الاقتباس، ولكننى أردت أن أبرز التناقض أو الاختلاف بين نقد الشاب محمد التابعى ليوسف وهبى الحاد والسلبى، ثم قراءته وإنصافه له فى مرحلة أخرى من الزمن، ومن الضرورى التعامل مع الوجهين وقراءة كل نقد فى ظل الملابسات الموضوعية والشخصية التى أحاطت بهما، وهذا غيض من فيض يزدحم به التاريخ.

وجدير بالذكر أن يوسف وهبى كان من أوائل من اهتموا بالمسرح، وكان الفنان محمد كريم الذى وضعته الأقدار فى حياة يوسف وهبى فى مقتبل عمره حتى يصحبه معه إلى دنيا الفن، وكان ذلك فى عام 1910، عندما كان كريم يركب العجلة فى حارة وهدان بالفجالة، وكذلك يوسف وهبى، واقترح عليه كريم أن يكاسره، وبعدها تصادقا وتزاملا وانخرطا معا فى دنيا الفن والمسرح.

ويحكى وهبى فى مذكراته التى أعدها محمد أحمد عيسى أن المصارع عبد الحليم المصرى، الذى كان يدرب الشباب فى السيرك على المصارعة، كان يصحبه معه، وكان المصرى ينازل أحد الأشخاص من المصارعين، وفى أحد الأيام غاب ذلك الشخص، وتم إغراء يوسف وهبى للنزول أمام ذلك الوحش الكاسر، وسيحصل على خمسة جنيهات كاملة، هذا إذا خسر أو إذا كسب، وحدثت الواقعة بالفعل، وكانت النتيجة هى تكسير عظام يوسف وهبى تماما، بعدها ترك حارة وهدان بكل ذكرياتها، لينتقل مع عائلته إلى حى المنيرة، وينطلق فى عالم الفن السحرى البهيج.

تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف