ليس في القرآن آية أجمع لمكارم الأخلاق منها، وما جمعته من المعاني السامية هو من إعجاز إيجاز القرآن (الباقلاني)، فقد تضمنت قواعد الشريعة في المأمورات والمنهيات (القرطبي)، وبيانا لأصول الفضائل الأدبية، وأساس التشريع (محمد رشيد رضا)، وأخلاقا أمر الله بها نبيه، ودله عليها. (قتادة).
إنها الآية المائة والتسع والتسعون من سورة "الأعراف" المكية، التي تحوي ثلاثة أوامر، في ثلاث عبارات، وسبع كلمات، هي قوله تعالى: "خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ".
فهي أمر من الله تعالى إلى نبيه، صلى الله عليه وسلم، بالعفو، والأمر بالمعروف، والإعراض عن جهل الجاهلين، وسفههم.
الأمر الأول في السورة، هو أخذ العفو، ولعظم قدره، أمر الله نبيه، صلى الله عليه وسلم، بأن يأخذه، باعتباره شيئا ثمينا. والمعنى: خذ ما عفا لك من أفعال الناس، وأخلاقهم، من غير كُلفة، كي لا ينفروا. (بحسب إجماع المعلقين).
وهذا الأسلوب أبلغ من قوله: "اعف"؛ إذ يفيد الحاجة الماسة إلى أن يربي المرء نفسه على خلُق العفو؛ فقد يعفو مرة أو مرات، عكس الذي يتصف بالعفو؛ إذ إنه يعفو عن الناس دوما، كلما سنحت الفرصة؛ ذلك أنه لا يجد تكلفا فيها.
وجاء في صحيح البخاري، عن هشام، عن أبيه عروة، عن أخيه عبد الله بن الزبير، قال: "إنما أنزل "خذ العفو" من أخلاق الناس". وعن مجاهد قال: "عفو أخلاق الناس, وعفو أمورهم".
وقال السعدي: "يأخذ ما سمحت به أنفسهم، وما سهل عليهم من الأعمال والأخلاق، فلا يكلفهم ما لا تسمح به طبائعهم، بل يشكر من كل أحد ما قابله به، من قول وفعل جميل، أو ما هو دون ذلك، ويتجاوز عن تقصيرهم، ويغض طرفه عن نقصهم".
ومن هنا، كانت حياة النبي، صلى الله عليه وسلم، مليئة بالعفو، حتى إنه عفا عن كفارِ قريش يوم فتح مكة برغم أنهم آذوه، وأخرجوه منها، بل قَتلوا خيرةَ أصحابه.
الأمر الثاني: الأمر بالعُرف، وهو ما تعارفه الناس من الخير، وفسروه بالمعروف، وهو كل قول حسن، وفعل جميل. قال البخاري: "العُرْف: المعروف، ونص عليه عروة والسدي وقتادة وابن جرير".
وقيل "العرف والمعروف والعارفة": "كل خصلة حسنة ترتضيها العقول، وتطمئن إليها النفوس". قال الشاعر: "من يفعل الخير لا يعدم جوازيه.. لا يذهب العُرف بين الله والناس".
وأكد العلماء أن ضابط العرف المعتبر ألا يخالف الشرع؛ فإن خالفه فهو باطل، لا يجوز العمل به.
والأمر الثالث: الإعراض عن الجاهلين، وهم السفهاء، بترك معاشرتهم، وعدم مقابلته بجهلهم، وكذلك عدم مماراتهم. فلا علاج أوقى لأذى هؤلاء الجاهلين من الإعراض عنهم، لأنهم لا يطلبون الحق إذا فقدوه، ولا يأخذون به فيما يخالف أهواءهم، إذا وجدوه.
وروى الطبري مرسلا أنه لما نزلت هذه الآية "سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - جبريل عنها، فقال: "لا أعلم حتى أسأل". ثم رجع فقال: "إن ربك يأمرك أن تصل من قطعك، وتعطي من حرمك، وتعفو عمن ظلمك". (فتح الباري).
قال بعض العلماء: الناس صنفان: صنف محسن، فخذ ما عفا لك من إحسانه، ولا تكلفه فوق طاقته. وصنف مسيء، فمره بالمعروف، فإن تمادى في ضلاله، واستمر في جهله، فأعرض عنه، فلعل ذلك أن يرد كيده.
وقد أخذ بعض الحكماء هذا المعنى، وفق ابن كثير، فسبكه في بيتين قال فيهما: "خذ العفو وأمر بعرف كما.. أُمرت وأعرض عن الجاهلين.. ولِن في الكلام لكل الأنام.. فمُستحسنٌ من ذوي الجاه لين".
وقال الشاعر أيضا: "كل الأمور تزول عنك وتنقضي.. إلا الثناء فإنه لك باقي.. ولو أنني خيرت كل فضيلة ما اخترت غير مكارم الأخلاق".
أخيرا: يا لها من آية رائعة.. تمثل دستورا للتعامل بين الناس، وسبيلا لزرع السكينة، وتكريس الوئام، ونشر السلام، فيما بينهم، فضلا عن اجتثاث بواعث الشر، وتأديب السفهاء،وبث الخير، وإشاعة المعروف، بين الناس، كل الناس؛ الأمر الذي يؤكد أن الإسلام دين جاء لصلاح البشرية جمعاء، وليس لهداية أتباعه فقط.