أمانى هولة
رائحة الموت.. حكايات وطن 85
بمناسبة العيد، اسمحوا لى أن تشاركونى إهداء قصة قديمة وجدتها فى دفاترى، إلى هؤلاء البسطاء الذين يرسمون الضحكات على وجوهنا، ويُدخلون البهجة إلى قلوبنا ثم يرحلون فى هدوء.. بآلامهم ودموعهم التى لا نراها أبداً.
- أهلاً بكم فى برنامجنا الحافل مع أبطال السيرك الشجعان.. الليلة وكل ليلة.
ارتفعت المكبرات المتهالكة بأصوات الموسيقى الصاخبة.. يصاحبها تصفيق المتفرجين المتحمسين، خصوصاً تلك الكفوف الصغيرة والعيون المبحلقة فى دهشة وانبهار، متعلقة بالبؤرة الساطعة وسط الحلبة التقليدية للسيرك.. التى يتوسّطها ذلك المذيع الثرثار.. مرتدياً بدلة رثة.. مكرراً الكلام نفسه بلا ملل.
ووسط هذا الصخب كانت هى، تجلس فى أحد الأركان شاردة صامتة، وقد رسمت هموم السنين على الوجه الجميل خطوطاً هنا وهناك، فى عمل جاد لا يعرف الرحمة لإخماد رونقه.. بدت تُخفى تعبها ككل ليلة.. مجاهدة أستار النوم المتراخية فى الجفون.. بينما الفقرات التى تحفظها عن ظهر قلب تتوالى وسط التصفيق والتهليل والضحكات.. دون أن يبدو عليها أى تأثر.. فلم يعد هناك ما يُضحكها فى هذا العالم.
وجاءت اللحظة التى تنتظرها.. وتخشاها.. انتبهت كل حواسها إلى تلك الرائحة اللعينة، تلك الرائحة التى تكرهها أكثر من أى شىء آخر.. إنها رائحة الموت.. حيث بدأ عمال السيرك رش عطر الياسمين الجميل، بناءً على اختيارها (فقد كانت تعشقها فى الأيام الخوالى)، استعداداً للعرض الرئيسى للسيرك، وهو عرض الأسود للتخفيف من رائحتها النفّاذة.
اتجهت يدها بشكل تلقائى إلى الـ«ما شاء الله» المعلقة على صدرها، وبدأت تتمتم بلهفة آيات منتقاة من القرآن أوصاها بها شيخ الجامع..
ومع تصاعد صوت دقات الطبول تتصاعد دقات القلب المتعب أكثر وأكثر حتى ظهر أخيراً فى منتصف الحلقة تماماً.. لا يزال كأول يوم رأته فيه.. بهيبته وجسارته التى لم تقهرها كل تلك السنين.. رجل ولا كل الرجال.. إنه هو زوجها الحبيب.
وبينما يُردد المذيع كلماته الرنانة عن أشجع الرجال قاهر الأسود والنمور.. بدأ طابور الوحوش التعسة المتحفّزة يدخل إلى الحلبة المحصّنة بأسوار عالية وهو واقف بقامته الفارهة.. ينظر إلى كل منها فى عينيه تماماً، مدركاً كما تدرك هى.. أن نهايته قد تكون يوماً بين أنياب أحدها فى لحظة انتقام آتية لا محالة.. لكبرياء الطبيعة.. التى نتطاول عليها غير مدركين أننا نتجاوز قدرنا أمام ناموس الكون ذاته.
لكنه قدره كما كان قدر أبيه الذى عقره أسده المقرب.. ثم مات حزناً عليه.. حتى عندما ظل وهو المكلوم على أبيه يضربه بلا وعى.. لم يقاوم أو يزأر كعادته، بل كان مستسلماً لعقابه.. لن تستطيع أن تنسى تلك اللحظات والوحش الكسير يلقى عليهم نظرة حزن طويلة تحمل معانى كثيرة.. كان يحاول أن يعتذر.. يشرح.. فلم يكن هو.. بل هى الطبيعة التى أعلنت عن نفسها فى لحظة.. وكان مجرد أداة لها، ربما رغم إرادته.. ثم امتنع عن الطعام حتى مات..
بدأت الوحوش تقوم بدورها بدقة وعيونها معلقة بصوت مدربها وسوطه المشهر دائماً. وأخيراً تأتى اللحظة المرتقبة الأكثر إثارة ورعباً.. إنها آخر الفقرات وأصعبها.. حيث يضع زوجها الحبيب رأسه داخل فم الأسد العجوز الغاضب.
تهب واقفة غير مبالية بنظرات المحيطين.. وقد تسارعت حركة شفتيها تسابق دقات قلبها.. مستجدية الله أن ينجيه ولو لآخر مرة وستستحلفه بأغلى شىء.. بكل شىء أن يتوقف عن استعراضه الذى يقتلها كل ليلة.. وإلا ستترك له البيت.. الدنيا كلها.. وهى تعرف أنه ككل مرة سيضمها إلى صدره.. لتشعر بأمان يكفى العالم كله.. وسيُردد وهو ينظر إلى سوط أبيه اللعين.. (الحكاية مش حكاية رزق وأكل عيش.. الحكاية أكبر بكتير).. إنه ميراث.. قدر.. شىء تعجز كلماته البسيطة أحياناً عن وصفه.. فليس من حق الرموز أن تنهار.. لأنه لو حدث ضاعت أشياء كثيرة.. ومحى التاريخ بعضاً من سطوره..
وتنتهى الفقرة الأخيرة فى سلام.. فيندفع الهواء إلى الرئتين المطبقتين مرة أخرى.. ويسقط الجسد المجهد على المقعد.. وفى نفس عميق تشكر الله.. ثم تلك الضوارى على أنهم أجّلوا حساب الطبيعة ومنحوها ليلة أخرى فى حضن الحبيب.. وبضعة جنيهات من أجل العيال.. ووعداً آخر بليلة جديدة من الانتظار.. والخوف.. والاستجداء.. والتجرع لرائحة الموت.