المساء
محمد جبريل
من المحرر .. اللغة فن لغوي


اللغة ـ في تعريف نقدي ـ هي أداة التعبير في فن الأدب. فهو إذن فن لغوي. الكلمات أهم أدوات الكاتب ومن هنا تأتي عنايته باللغة أو هذا هو المفروض يقول العماد الأصفهاني: "لا يكتب إنسان كتاباً في يومه إلا قال في غده: لو غير هذا لكان أحسن. ولو زيد لكان يستحسن. ولو قدم هذا لكان أفضل. ولو ترك هذا لكان أجمل. وهذا من أعظم العبر. وهو دليل علي استيلاء النقص علي جملة البشر".
حاولت أن أعمل بالنصيحة نفسها التي تلقاها همنجواي من أحد نقاده. فاتخلص من كل الألفاظ "القنبلية" وأًصف الأشياء ببساطة أشد وأضع الكلمة المناسبة في الموضع المناسب.
معاني الكلمات مهمة جداً لكن إيقاعاتها وإمكاناتها الصوتية مهمة أيضاً. وربما أرجأت نقل قصة لي علي الآلة الكاتبة/ الكمبيوتر. لأن إحدي كلماتها تبدو نشازاً. أو غير متسقة. مع بقية الكلمات. وكما يقول فلوبير فإن "جملة نثر جيدة حقاً. تساوي في جودتها بيتاً من الشعر. وبالدرجة نفسها من الإيقاع والجزالة".
أذكر أنني بدأت حياتي الأدبية شاعراً مثلما بدأ الكثير من الأدباء. الأدق أني أحببت الشعر وحاولت أن أسبح في بحوره وكتبت بالفعل بضع قصائد تحاكي محاولات شعراء قدامي ومعاصرين لكنها لم تكن تعبيراً بأية حال عن موهبتي الخاصة. فلما أدركت أنه من الصعب أن تكون لي موهبة حقيقية في مجال الشعر عنيت بالكتابة القصصية والروائية وإن ظل حبي للشعر أحاول الإفادة من خصائصه اللغوية تحديداً في كتاباتي النثرية. ولعلي أستعير قول لورنس داريل بأني شاعر تعثر فكتب نثراً. أو أني روائي شاعر يشغلني التوتر في الجملة والصورة والتداعيات الداخلية. إلخ.
الحوار مهم أيضاً في الرواية. إن حواراً قصيراً. مكثفاً. بين شخصيات الرواية قد يغني عن سرد مطول يفتقد المعني. وفي العديد من رواياتي إفادة مؤكدة من درامية الحوار. فهو جزء من البنية الدرامية للرواية لا تستقيم بدونه جسر يستحيل إلا أن تمضي عليه بين فقرات السرد. لقد طالما حذر موباسان روائيي عصره أن يحكوا كل شيء فذلك أمر غير ممكن لأنه يلزمك مجلد كامل كي تروي ما حدث لشخص واحد. في يوم واحد. وكان رأي شوبنهاور أن علي الكاتب أن يكتب ما يستحق ذلك بالفعل. ويتحاشي التفصيل الممل عن أشياء يستطيع كل امرئ أن يعرفها. أن يفرق بين ما هو لازم وما هو من قبيل التزيد الذي لا لزوم له ويقول تشيخوف: الإيجاز توءم الموهبة ويكتب في إحدي رسائله: قد يبدو غريباً أنني أحب ـ لدرجة الجنون ـ كل ما أتي مختصراً بل إني لم أقرأ بعد فيما كتبته أو ما كتبه غيري ما أطلبه من الإيجاز وبالطبع فإن الإيجاز لا يتصل بطول العمل ثمة فرق بين الإيجاز والتركيز من المستحيل علي سبيل المثال أن نتصور ثلاثية نجيب محفوظ في غير الحجم الذي صدرت به مثلما أنه من المستحيل تصور الحرب والسلام والأبله والجريمة والعقاب في صفحات أقل مما صدرت فيها.
باختصار فإنه إذا كان التكثيف مطلوباً فإن الاختصار المخل غير مطلوب وعلي حد تعبير بيرسي لبوك فإنه مما يدمر القصة الإفراط في معالجتها أو التقصير في هذه المعالجة.
وإذا كنت أشدد علي أهمية اللغة فإني أشدد كذلك علي أهمية الجوانب الأخري للعمل أن يكون العمل فناً له وهج الفن وخصائصه وقيمته وجدواه. الموهبة اللغوية وحدها لا تكفي وكما يقول أرسكين كالدويل: هناك العديد من الكتاب الذين يملكون سيطرة كاملة علي الشكل والتكنيك لكن ينقص قصصهم الإحساس أعتقد أن ذلك مهم.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف