الوطن
عاطف بشاى
فى ذكرى الساخر العظيم
رحل الساخر الكبير زعيم ظرفاء عصره «أحمد رجب» فى مثل هذه الأيام من العام الماضى وقد آثر ألا يترك صديقه عبقرى الكاريكاتير «مصطفى حسين» بمفرده وحيداً بعد رحلة عطاء فياضة ومبهرة وجسورة فقد كان بجموح غير مسبوق سواء من خلال بابه الشهير نصف كلمة أو نكاته الصارخة أو شخصياته البديعة التى نسجها ببراعة وذكاء متقد من ملامح أناس يعيشون بيننا فى خليط عجيب ومتناقض ويشكلون فى النهاية مثالب مجتمع وأطماع بشر..

ومنذ البداية المبكرة -وبصرف النظر عن طبيعة الحكم وتوجهاته السياسية- فقد كان يقفز فوق الأسوار والأسلاك الشائكة.. ويحطم كل جسور التحفظ والتريث.. وينسف كل أشكال مراعاة التوازنات أو حسابات العواقب أو ردود الأفعال. إنه يستخدم كل أسلحة التهكم -دفعة واحدة- وبلا تردد أو تمهل سواء تلك الأسلحة الظاهرة الواضحة الجلية الصارمة الباطشة أو المستترة الخفية الخبيثة الزاخرة بالغمز واللمز والتلميح.. ولا يفرق بين الهجوم السافر الذى يحمل فى طياته معانى الاستخفاف والاستهانة والاستهزاء والتجريح والتحقير من شأن كل مظاهر القبح والتفاهة ومواجهة رذائل المجتمع وانحرافات السادة.. وكشف عورات الثقلاء.. وبين مقارعة الحجة والرأى بالرأى الآخر دون إسالة دماء.. إنه رابض -فى النهاية- فى كمينه.. يتربص بالضحية.. ثم ينهال مسدداً سهامه المتتالية إلى رأسها.. دون أن يدع لها فرصة الالتفات أو الدفاع عن النفس.. وكأن قدر الذين لا يقدرون على النزال أن يصمتوا وهم يتحسسون رؤوسهم.

والحقيقة أنه كان معارضاً شريفاً رغم شراسته.. فى كل الأوقات وضد كل الحكومات منذ عهد «عبدالناصر» وحتى وافته المنية.. ولم يخضع لأى ضغوط أو يوافق على أى تنازلات.. حرية التعبير عنده تتساوى مع الحياة نفسها.. ولعل ذلك هو ما أكسبه احتراماً وتقديراً حتى من قِبَل خصومه.. لقد خاض -مع مصطفى حسين- معارك ضارية ضد التطرف والتكفيريين وسخرا من زى السلفى.. ووقفا فى مواجهة «معمر القذافى».. ولعل تصويره كطفل يقضى حاجته فى «قصرية» أبلغ دليل على جسارته وعلى فهمه الخاص لطبيعة النكتة المصرية القائمة على المفارقة القاسية بل الجارحة التى تدمى بلا رحمة ولا هوادة..

وأنت تقرأ سطور «أحمد رجب» أو تتابع تجسيده لتلك الشخصيات المدهشة التى تمثل أنماطاً بشرية تعكس الحياة الاجتماعية والسياسية فى مصر.. فأنت تضحك ملء الأشداق.. ثم ما تلبث أن تكتشف أن لضحكاتك طعماً مراً.. وان الضحك ما هو إلا نوع من الاستعلاء على البكاء.. لكنه ليس تعويضاً عنه.. بل مرادف له.

فمَن ينسى تلك الشخصيات الكاريكاتيرية ابتداءً من «كمبورة» الأفّاق الذى يمثل تلك الشريحة الاجتماعية التى ظهرت مع الانفتاح وكوّنت بالنصب والاحتيال والفهلوة ثروات طائلة مستخدمة كل الطرق المشروعة وغير المشروعة وأصبحت نموذجاً للفساد والتلون والمتاجرة بأحلام الناس فى مقابل تحقيق مصالحه المادية.. «وفلاح كفر الهنادوة» الفصيح الأريب البسيط الذى يواجه السلطة ويكشف عوراتها فى خبث ومداعبة وحكمة.. فيسقط عنها أقنعتها.. ويحرجها ليدفعها إلى تغيير مسارها وإصلاح اعوجاجها.. وهو ينسب كلامه لآخر هو الواد ابن أبوسليم أبولسان زالف.. حتى لا يقع فى المحظور..

«وعبده مشتاق» المستميت من أجل المنصب ممثلاً فى كرسى الوزارة.. وشخصية الفقير المعدم المتعالى على فقره فيتقمص دور الثرى المترف.. والحاقد «قاسم السماوى».. وعزيز بيه الأليت البرجوازى المنفصل عن واقع مجتمعه.. ومطرب الأخبار قبيح الصوت الذى يُضرب ضرباً مبرحاً أينما ذهب ليغنى.. والموظف البيروقراطى «عبدالروتين»..

أما بداية علاقتى بـ«أحمد رجب» فقد كان لقائى به هبة من هبات السماء، حيث امتزجت عبقرية المفارقة عنده بروح السخرية الكامنة فى نفسى التواقة إلى كشف عورات مجتمع ونزع أقنعة زائفة تدين بشراً ليسوا ببشر.. ومسلمات تسكن حدقات عيوننا وتصبغ حاضرنا بماضٍ كنا نتوق إلى تجاوز تخلفه وجموده.. ومن هذا الائتلاف بين عبقرية المفارقة عنده والشوق عندى إلى تعرية قبح واقع مهترئ نعيشه وأحاول أن أعبر عن ملامح «الملهاة» فى أعماقه.. كتبت السيناريو والحوار لقصص نشرها فى مراحل زمنية مختلفة فكانت أفلاماً.. «فوزية البرجوازية»، و«الوزير جاى»، و«محاكمة على بابا» و«المجنون»، و«صاحب العمارة».. ومسلسلى «الحب وسنينه» «وناس وناس» فيما يؤسس لنوع مبتكر أو مدرسة فنية جديدة فى الكوميديا يمكن تسميتها «الكوميديا الكاريكاتيرية» أو «الكاريكاتير الدرامى».

وقد حرصت على أن أتناول هذه الأعمال التى كتبها فى إطار «الممازحة» أو «التنكيت» أو «السخرية اللاذعة» من بعض المظاهر الاجتماعية خاصة فيما يتصل بالعلاقة بين الرجل والمرأة.. حرصت على التعمق فى رسم الشخصيات بأبعادها النفسية والاجتماعية متجاوزاً «الاستعراض الشكلى» للأنماط التى تثير الضحك على طريقة «شنبو فى المصيدة» إلى آفاق أرحب وأكثر غوراً.. تناقش قضايا مهمة..

يتضح ذلك من خلال فيلم «فوزية البرجوازية» -مثلاً- القائمة فكرته على تشاحن أصحاب الاتجاهات السياسية المتنافرة وتضارب انتماءاتهم الأيديولوجية المختلفة ما بين يمين ويسار واستخدامهم كل أنواع التراشق اللفظى فى «مصطلحات سياسية غامضة وملتبسة وغير دارجة بين الناس.. ولكنها شائعة بين المثقفين المتحذلقين مثل (برجوازى، متعفن، يمينى، رجعى، رأسمالى، راديكالى، يسارى، ديماجوجى.. إلخ).

وقد أثار الفيلم جدلاً كبيراً -عند أنصار المعسكرين وقتها- ونجح نجاحاً كبيراً فى جذب المشاهدين إلى منطقة درامية جديدة عما هو مألوف من موضوعات قديمة وأفكار مكررة.. والمدهش أن الفيلم -وهو إنتاج الثمانينات- يعكس واقعاً يعيشه الشارع المصرى الآن والمتصل بالانقسامات المذهبية بين الناس بعد ثورتى (25 يناير و30 يونيو).

ستظل أيها الساخر العظيم حاضراً فى الزمن.. رابضاً فى الذاكرة.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف