الأهرام
حسن ابو طالب
مصالح مصرية وضغوط روسية
كثير من المصريين يقدرون المواقف الروسية التى دعمت ثورة المصريين فى 30 يونيو، وذلك على عكس الكثير من الدول التى اتخذت مواقف إما مترددة أو عدائية صريحة. هذا التقدير الشعبى يعود فى جانب منه أيضا الى خبرة تاريخية سابقة خاصة حقبة الستينيات من القرن الماضى حين كان الاتحاد السوفيتى الذى ورثته روسيا لاحقا، يقف مع أصدقائه من الدول ذات التوجهات الايديولوجية القريبة من الأفكار الاشتراكية والشيوعية، وهى التوجهات التى سادت فى مصر الناصرية. لكن روسيا اليوم ليست روسيا قبل عقدين وليست الاتحاد السوفيتى قبل ثلاثة عقود. روسيا اليوم تبحث عن مصالحها الخاصة قبل أى شىء آخر، ولم تعد تضع بُعد التقارب الشخصى فى الحسبان إلا فى حدود لا تضر مصالحها الخاصة. روسيا اليوم تمارس كل ما هو معروف فى العلاقات الدولية من ضغوط على الأصدقاء وعلى الأعداء فى آن واحد، مع اختلاف فى درجة الضغوط ووسائلها، كما تنحو إلى الصفقات التبادلية الشاملة، وهو ما يعرفه «أولاد البلد» بمنهج «هات وخذ» ولم تعد تخجل من اللجوء الى القوة المسلحة لحسم بعض القضايا التى تتعلق بأمنها القومي، وهو ما رأيناه فى حسم أمر شبه جزيرة القرم والأزمة الأوكرانية، ووصل الى قمته فى الأزمة السورية حيث التدخل العسكرى المباشر من أجل تغيير موازين القوى على الأرض السورية والحيلولة دون سقوط نظام الأسد. ولم تعد موسكو تعبأ كثيرا بالضغوط المضادة التى تمارسها الولايات المتحدة والدول الاوروبية وحلف الناتو، سواء كانت هذه الضغوط المضادة فى صورة عقوبات اقتصادية أو تهديدات عسكرية أو تحركات من الناتو فى اتجاه الحدود الروسية. وفى الآن ذاته تدخل فى حوارات مع هؤلاء الأعداء وهى تدرك جيدا أنها حوارات عقيمة أو لمجرد استهلاك الوقت وتخفيف التوتر، وبشكل عام لا تقطع خطوطا مع الغير. روسيا بهذا الشكل دولة تعرف الشىء ونقيضه، وتمارس التقارب مع الغير شرط أن يحقق لها مصلحتها العليا، وإن اختلفت المصلحة فلا مجال للتنازل. هذه الأمور باتت من الماضى الذى لن يعود. روسيا بهذا الشكل يمكن أن تكون حليفا قويا، كما يمكن أن تكون عدوا صريحا، أو على الأقل دولة لا مبالية. وبمقاييس العلاقات الدولية تُعد روسيا دولة طبيعية يمكن توقع خطواتها بدون معاناة.

التوصيف السابق للحالة الروسية قد يصدم الكثير من المصريين الذين يعيشون أحلام حقبة سابقة ولت وانتهى أثرها. وهو توصيف أظن أنه يساعد الكثيرين على الخروج من حالة الحيرة التى تنتابهم حين يرون روسيا تتخذ مواقف غير مبررة أو لا تراعى من وجهة نظرهم خصوصية العلاقة المصرية الروسية. فكثير منا أصابته غصة حين تراجعت موسكو عن كل مواقفها العقابية تجاه تركيا التى أسقطت طائرة حربية روسية عمدا وقصدا لغرض إهانة العسكرية الروسية، بل قررت ما يشبه تعويض أنقرة عن فترة العقوبات السابقة وسمحت للسياحة الروسية بالتدفق الى تركيا بعد يومين فقط من تعرض مطار اسطنبول الدولى لعمل إرهابى كبير، بل والأنكى من ذلك فتحت الباب أمام أنقرة للدخول عسكريا الى الأراضى السورية، وضرب قوات سوريا الديمقراطية التى اعُتبرت من قبل حليفا كرديا لروسيا فى محاربة ميليشيات داعش الإرهابية فى الداخل السوري. مكمن الغصة المصرية أن روسيا القريبة منا مازالت تمنع عودة السياحة والطيران الروسى الى المطارت المصرية.

وآخر ما صدر عن روسيا أنهم يأملون اتخاذ قرار بشأن السفر الى مصر قبل نهاية العام، أى أنه لا عودة قريبة للسياحة الروسية حتى بعد لقاء الرئيس السيسى وبوتين فى بكين على هامش أعمال قمة الدول العشرين التى شاركت فيها مصر. فى الآن ذاته هناك شىء خفى فى ملف الضبعة النووي، وأخيرا نواجه بتهديد بل بقرار روسى لتعليق استيراد الموالح المصرية، ورفض شحنات بطاطس ومنتجات زراعية أخري، وهو الموقف الذى جاء ردا على قرار وزارة الزراعة بمنع استيراد الأقماح المُصابة بفطر الارجوت بأى نسبة كانت، حتى تلك التى تسمح بها المقاييس العالمية فى حدود 0.05%، خوفا من تسرب هذا الفطر الى النباتات المصرية. وقد يُقال هنا إن وزارة الزراعة ووزيرها قد أخطأ القرار، وهناك من يمهد لإلغائه ترضية لروسيا وخوفا من تهديداتها بشأن تعليق استيراد الموالح المصرية التى تصل قيمتها الى 350 مليون دولار، لكن يظل هناك جوهر الموضوع، وهو باختصار أن العلاقة مع روسيا ليست سوى علاقة مع دولة تبحث عن مصالحها أولا وأخيرا.

ملف استيراد القمح المصاب بفطر الأرجوت وتصدير الموالح المصرية، ورغم ما فيه من تداعيات على صحة المصريين، فقد يهون نسبيا مقارنة بملف العلاقات العسكرية، ولا يدرى المرء ما الذى تحمله الأقدار بعد سنوات من الآن، قد نجد أنفسنا فى لحظة حرجة ومصيرية واقعين تحت ضغوط منع قطع غيار الأسلحة الروسية حتى نتخذ مواقف بعينها خدمة للمصالح الروسية الجديدة فى المنطقة، وللتذكير فقط، ورغم عمق العلاقات الروسية الايرانية، فكثيرا ما أوقفت موسكو عملية بناء المفاعل النووى فى بوشهر كجزء من مساومات مع واشنطن. وقد يبدو الأمر توقعا سخيفا، غير أن الحكمة تقتضى أن نفكر فى كل الاحتمالات، ومع كل الشركاء دون استثناء، والتى لن ينقذنا منها سوى تعزيز مصادر القوة المصرية الشاملة، وتحقيق الاكتفاء الذاتى قدر الإمكان فى الخبز كما فى السلاح.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف