د. محمود خليل
ترشيد المضطر.. وكتمة الكحك..!
منذ عام بدأ الكثيرون يصرخون من الغلاء، خصوصاً المواطنين المنتمين إلى الطبقتين الوسطى والفقيرة، على الترتيب. اليوم لم يعد أحد يصرخ، بعد أن بُحّت الأصوات، الكل «مكتوم كتمة الكحك»، ويجد نفسه مضطراً إلى الدخول فى حالة «ترشيد إجبارى»، كثيرون لاحظوا أن البعض أحجم عن التضحية خلال عيد الأضحى الماضى، البعض استبدل نوع السجائر الذى يشربه بنوع أرخص، عبارة «اطفى النور» أصبحت الأكثر شيوعاً على ألسنة الآباء والأمهات فى مواجهة أبنائهم، والسبب بالطبع فواتير الكهرباء الملتهية. وقِس على ذلك فى جوانب الحياة الأخرى. الناس «مكتومة»، لأنها ترشد وهى مجبرة، لأنها أصبحت مضطرة إلى ذلك كل الاضطرار. فماذا يفعل الكثيرون فى ظل الخبطات المتوالية التى تصفع رؤوسهم نتيجة زيادة الأسعار، فى الوقت الذى ترقد فيه المرتبات فى الثلاجة، ويدخل فيه الجنيه فى حالة انكماش غير مسبوقة نتيجة الارتفاع فى معدلات التضخم؟.
كثيرون بدأوا يحجمون مشترياتهم، ولا يمارسون -مضطرين- السلوكيات الشرائية التى اعتادوا عليها. قد يقول قائل إن هذا التحول الذى يتنامى يوماً بعد يوم يعبر عن حالة إيجابية بدأت تنتاب المصريين.. وهل يختلف أحد فى أن الترشيد سلوك إيجابى؟. هذا الكلام صحيح فى ظاهره، مضلل فى باطنه، لأن الترشيد الإيجابى هو الترشيد الطبيعى الذى يمارسه الإنسان بهدف توجيه ما يرشده إلى أهداف أعلى أو أكثر إنتاجية، بدلاً من إنفاق دخله على احتياجات استهلاكية، أما الترشيد الذى يمارسه الإنسان «عشان معندوش» فلا يمتاز بما يفترض فى معنى الترشيد من معانٍ إيجابية، ناهيك عن خطورته التى تمتد إلى الاقتصاد ككل، لأن «ترشيد المضطر» يؤدى فى أغلب الأحوال إلى إصابة السوق بحالة من الركود، وهو أمر له مخاطره على «اقتصاد» يتفق الجميع على أنه يعانى من أمراض عديدة، والنتيجة التى تترتب على الركود أن تمتد «كتمة الكحك» من المستهلك إلى التاجر، ليدخل الجميع دائرة الوعد!.
ثمة نتيجة أهم تترتب على الترشيد الإجبارى، تتمثل فى سيطرة حالة من الإحباط واليأس على نفوس مَن يجدون أنفسهم مضطرين إليه، وهنا يطفو خطر أكبر. فدخول الناس فى دوائر الإحباط واليأس يجعلهم أكثر عصبية واستعداداً للانفجار فى أية لحظة، بغض النظر عن الشكل الذى يأخذه الانفجار، فقد يأخذ شكل الانفجار فى بعضهم البعض، وقد يأخذ شكل الانفجار فى وجه أية قيمة تمجد المجموع، وتدفع بالشخص إلى التفكير فى نفسه أو فى الدائرة اللصيقة به، والتخريب فيما هو خارجها، ولو أننا لاحظنا الطريقة التى يؤدى بها البعض فى الآونة الأخيرة فسوف تجد أنهم يحتكمون إلى المثل المصرى الشهير «لو بيت أبوك خرب الحق لك فيه قالب»!. الشكل الأخير للانفجار، يتمثل فى الانفجار فى وجه الحكومة، ويخطئ من يظن أن الانفجار هذه المرة يمكن أن يأتى فى موعد محدد، كما حدث فى مرات سابقة، فأغلب الظن أنه سيأتى فجأة، وفى لحظة غير متوقعة، ودون ترتيب مسبق.. وربنا يستر ساعتها!.