على هاشم
معا للمستقبل - السعادة لاتقاس بالاستطلاعات وحدها !
يكاد المرء يصاب بالحيرة حين يطالع التناقض بين نتائج استطلاعات الرأي المحلية وتقارير مراكز الأبحاث العالمية فيما يخص الحالة المزاجية والنفسية للمصريين فبينما يؤكد باحثون مصريون في علم الاجتماع أن نسبة كبيرة من المصريين يغمرهم شعور بالتفاؤل رغم ما عانوه خلال السنوات الثلاث التي أعقبت ثورة يناير من اغتراب مجتمعي جراء افتقادهم الشعور بالأمن.وشيوع ظواهر مجتمعية سلبية لم تكن موجودة قبل لكن هذه الحالة العكرة سرعان ما تحولت إلي حالة رضا وتوافق مع النفس فور انتخاب الرئيس السيسي رئيسًا لمصر. والذي رفع الحالة المعنوية للمصريين. وخلق حالة من الأمل والتفاؤل. بددت مخاوفهم من مخاطر جمة.غرقت فيها بلدان ما سمي ب "الربيع العربي".
أما التقارير العالمية وآخرها ¢ تقرير السعادة العالمي World Happiness Report الذي يعده مجموعة باحثين مستقلين بتوصية من الجمعية العامة للأمم المتحدة منذ العام 2011.ويصدر في احتفال يقام في 20 من مارس سنويًا.بهدف حث الدول الأعضاء في المنظمة الأممية علي قياس مستوي سعادة شعوبها.ومدي شعورهم بالرفاهية أو جودة الحياة
* تقرير ¢السعادة¢ رغم اشتماله علي مقاييس إدراكية وموضوعية مستقاة من مصادر عديدة »لكن نتائجه فيما يخص المصريين جاءت صادمة ومحيرة.فقد وضع مصر في المرتبة ال 19 عربياً وال130 عالمياً ضمن 156 دولة من حيث شعور شعبها بالسعادة. بينما تفوقت عليها 18 دولة عربية.بينها العراق والجزائر واليمن وليبيا وفلسطين والسودان وتصدرت الإمارات العربية قائمة شعوب الدول العربية الأكثر سعادة محققة المركز الرابع عشر عالمياً بينما احتلت الدانمارك والنرويج وسويسرا وهولندا والسويد وكندا وفنلندا والنمسا وأستراليا وأيسلندا المراكز العشر الأولي في قائمة الشعوب الأكثر سعادة.متقدمة علي أمريكا وإنجلترا وفرنسا وإيطاليا وروسيا. وتوسدت أفغانستان القاع.يليها غينيا ومالي
بعض الدول العربية حققت مراكز معقولة عالمياً »فالإمارات حلت في المركز الرابع عشر. يليها سلطنة عمان في المرتبة 23.وقطر 27.والكويت 32. يليها مباشرة السعودية 33.ثم الجزائر 73 فالأردن 74. وليبيا 78.والبحرين 79. ثم لبنان 97 فالمغرب 99. والصومال 101.وتونس 104 فالعراق 105 ثم موريتانيا 112 ففلسطين 113 فجيبوتي 114. ثم السودان 124 بينما احتلت مصر المرتبة 130 واليمن 142 وسوريا 148 وأخيراً جزر القمر 149.
ويمكن استخلاص عدة مؤشرات من تقرير السعادة العالمي. فالشعوب الأكثر سعادة في نظره هي تلك التي تنتمي إلي دول متقدمة اقتصادياً ومؤسسياً.وتسودها درجة عالية من الحريات في مقابل غياب الفساد وحضور الصحة العقلية والجسدية للمواطن.
* التقرير أشار أيضاً إلي أن العالم يعيش حالة فجة من التغييرات والتناقضات رغم ما تحقق من تقدم تكنولوجي هائل. فمليارات من البشر لايزالون يعانون الفقر والجوع. ولا يجدون قوت يومهم ورغم ذلك فقد وضع مصر في آخر قائمة الدول السعيدة شعوبها.متغافلاً عما مرت به من سنوات عجاف بعد ثورة يناير. توقف فيها الإنتاج. وسادت فيها الاضطرابات والصراعات السياسية والانقسامات والاستقطابات الحادة.والاحتجاجات والإضرابات الفئوية وما صاحبها من انفلات أمني وأخلاقي وإعلامي وتدهور في الأوضاع الصحية بفعل التلوث وانهيار الخدمات الصحية التي تقدمها الدولة.وكذلك تزايد معدلات الفقر والبطالة.وتراجع الدخل الحقيقي بفعل الارتفاع المتواصل للأسعار وزيادة معدلات التضخم وانخفاض القوة الشرائية للعملة الوطنية.وتدهور مستوي المعيشة.
لكن السؤال ألم ينجح المصريون في عبور الأزمة بالفعل ألم يشاركوا بنسب مرتفعة في الاستحقاقين الأولين.فأنجزوا دستورهم واختاروا رئيسهم وفوضوه بمحاربة الإرهاب ومنحوه الدعم والغطاء الشعبي.وشاركوا في بناء المشروع القومي الأهم وهو قناة السويس الجديدة بمعدلات أذهلت العالم كله ثم توجت القيادة نجاحات المصريين بالمؤتمر الاقتصادي وإنجاز خطوات مهمة في مفاوضات سد النهضة.والمشاركة في عاصفة الحزم ضدد التمدد الإيراني في المنطقة العربية.وتوجيه ضربة ناجحة لداعش في ليبيا أليس ذلك كله انتصارات متتالية فهل ينتصر المتشائم وهل يفلح المقهور في قهر الصعاب والتحديات ؟!
ما جاء به تقرير السعادة العالمي يقفز فوق هذه المعطيات ويتجاهل الفارق الهائل بين ما يشعر به المصريون اليوم.وما كانوا فيه منذ أكثر من عام في ظل غمة الإخوان صحيح أن المشكلات عديدة وعميقة ووليدة تراكمات سنوات وعقود من الفساد لكن لا أحد ينكر أن الأحوال تتحسن. الاقتصاد يكتسب ثقة عالمية يوماً بعد الآخر وها هي تصنيفاته الإيجابية تزداد ومعدلات النمو ترتفع وعجلة الإنتاج دارت.والأمن يتحسن والقوة الناعمة لمصر تستعيد عافيتها وثقة الشعب في المستقبل تعود بفضل رئيس يعلم حدود مسئولياته ومقتضيات الأمن القومي ودور مصر ومكانتها إقليميًا ودوليًا
وفي المقابل ثمة أسئلة تبدو طبيعية تعليقا علي نتائج هذا التقرير فهل يعقل أن شعب مصر أقل سعادة وأكثر تعاسة من شعوب عربية كالشعب الفلسطيني الواقع تحت الاحتلال الإسرائيلي والحصار والموت والدمار أو شعب العراق الغارق في التفتت والتفجيرات والاقتتال الطائفي أو الصومال حيث اللادولة والسودان المقسم أو ليبيا المحاصرة بالفوضي وميليشيات العنف فهل بعد الأمن والاستقرار نعمة ؟!
لا ينكر أحد أن شعب مصر لا يزال يعاني البيروقراطية وفساد الإهمال وتراكمات الماضي وسوء التخطيط.ناهيك عما يفعله نفر من بني جلدتنا هم جماعة الإخوان الإرهابية من قتل للأبرياء وتدمير للوطن وحرق للمنشآت وهو ما يضاعف الضغوط علي المصريين لكن هل يفت ذلك في عضد المصريين أو يضعف شعورهم بالتفاؤل والسعادة ؟!
كلا وألف كلا ودليلي أنه ما من تفجير يقع إلا وتجد هذا الشعب يسارع بالنزول لمواقع الانفجار.لا يبالي الموت. بل يتحدي الفناء ويصر علي الحياة وهذا هو السر في خلود هذا الشعب وعظمته ثم بماذا نفسر خروج ملايين المصريين للاحتفال بشم النسيم مثلاً في الحدائق والمتنزهات رغم صعوبة الحياة أليس ذلك دليلاً علي الرغبة في الحياة والتحدي والرضا بما قسمه الله وتلك درجات من السعادة لا يعلمها إلا من يفهم نفسية هذا الشعب. ويعرف عمقه الحضاري.
لا شك أن تقرير السعادة العالمي تغافل عن الظروف التي أحاطت بالمصريين وقت إجراء مثل هذا الاستطلاع. وهو ما يجعله بعيداً عن الواقع مجافياً للحقيقة فلو أن شعباً آخر تعرض لمثل ما تعرض له المصريون لما كان بمثل هذه الدرجة من الصمود والمثابرة.وهو ما يعكس القوة النفسية الهائلة لهذا الشعب قاهر الغزاة.
الشعب الذي يسخر من همومه وجلاديه بالنكتة والمرح والدعابات مهوناً من خطوب جسيمة شعب لا يمكن وصفه بالمتشائم أو الكاره للحياة شعب بني حضارته علي الزراعة والاستقرار والحركة الدءوب لا يمكن وصفه بالخامل المستسلم المتواكل قد يضعف أو يمرض لكنه أبداً لا يموت.
الشعب الذي استوعب الغزاة وصبغهم بطبعه. وطوعهم لثقافته. لا يمكن الحكم عليه بالتعاسة أو التشاؤم والإحباط وهي الصفات السلبية التي تتنافي وقدرة المصريين علي إنتاج الحضارة وصناعة التاريخ
وأخيراً علينا أن نمعن النظر في حكمة المصريين وقدرتهم الهائلة علي هضم الحضارات والاحتفاظ بالطابع المصري الأصيل. فللشخصية المصرية أعمدة لا تخطئها عين منصفة علينا أن نتأمل عظة وجهها البابا تواضروس مفادها أن البشر نوعان نوع يختار ثقافة الحياة بكل ما فيها من حضارة وتراث وبناء وتعمير ومعرفة وفن وكرامة وعيش طيب ونجاح وتعب ومسئولية واجتهاد ونوع ثان يختار ثقافة المو. حيث يحول كل ما هو جميل في حياة الإنسان إلي موت وخراب. ويظهر ذلك في القتل والتدمير والكراهية والعنف والإرهاب والإيذاء وغير ذلك من أفعال الموت.
البابا تواضروس أكد أيضاً أن أحد مظاهر ثقافة الحياة أن نحول كل شئ إلي جمال »لأن الجمال قبل أن يكون خارج الإنسان يكون أولاً داخله. يولد في قلبه. وأظن أن غالبية الشعب المصري اختارت ثقافة الحياة والعيش في أمان وسلام مع الآخر. وإرادة الحياة حتما هي المنتصرة مهما يحاول أعداء الحياة من تنظيمات الإرهاب وميليشيات العنف الملتحفة برداء الدين والدين منهم براء ربما لا تكون سعادة الشعب كاملة أو بدرجة عالية. لكن هذا لا يعني أبداً أنه تعس أو فاقد للشعور بالسعادة ولو كره الكارهون.
فالرضا بالمقسوم عبادة هذه هي خلاصة حكمة المصريين وقناعاتهم الراسخة منذ القدم ولو كره الكارهون