الأهرام
عبد المنعم سعيد
المحافظون مرة أخرى
عندما يغضب الأستاذان حمدى رزق ومحمد أمين فى المصرى اليوم الغراء على اختيارات الحكم لمناصب المحافظين الجدد،
فإن ما يقولان به يستحق أن يؤخذ بالجدية التى يستحقانها، وبالجدية التى يستحقها الموضوع. وقد حاولت من مكانى فى الولايات المتحدة ـ مدينة بوسطن ـ البحث عن ردود الدولة على ما قالا به، فلم أجد؛ ولكن إذا كان هناك رد فاننى أرجو المعذرة. وعلى أى الأحوال فإن ما يهمنا فى هذا المقام أن النقطة الأساسية فى اختيارات المحافظين هى كيفية اختيار الموظف العام فى المناصب العليا للدولة، وما يكتنفها من إشكاليات ربما نتناولها فى مقالات أخري. ولكن ما يهمنا هنا، وتواصلا مع مقال الأسبوع الماضي، ليس المحافظين وخصائصهم ومؤهلاتهم وقدراتهم وآلية اختيارهم، وإنما المحافظات أو التقسيم الإدارى للدولة. فعندما نتبين شكل الدولة، وتقسيماتها، فإن المهام والوظائف سوف تتضح، وساعتها، وطالما أننا جميعا نسعى لوضع الرجل المناسب أو المرأة المناسبة فى المكان المناسب أيضا، فإن المسألة كلها سوف تكون أكثر سهولة مما تبدو عليه الآن، وبالتأكيد فإن المسئول سوف يكون أكثر فاعلية.

ما أثرناه سابقا ركز على نقل السلطات والموازنات العامة إلى المحافظات، وعلى سبيل المثال ميزانية «العمران» فى مصر خلال العام المالى ٢٠١٥/٢٠١٦، وفقا لما جاء فى تقرير بيئة البناء «تحليل للعدالة المكانية فى مصر»، الذى أعده يحيى شوكت وأميرة خليل، أن المقرر فيها للبناء خلال العام المالى المنصرم بلغ قرابة ٩٨٫9 مليار جنيه يجرى إنفاقها عن طريق أربعة وزارات (الإسكان والكهرباء والمواصلات والإدارة المحلية) وبينما تقوم وزارة الإسكان وحدها بإنفاق ٥١٫8% من هذه الموازنة، فإن إنفاق المحافظات البالغة ٢٧ محافظة بلغ 3٫2٪. الخلل هنا واضح، وما ينطبق على «العمران ينطبق على التعليم والصحة والأمن وكل ما يتعلق بالإنفاق العام على الخدمات. والخلل فى التقرير المشارإليه لا ينطبق على توزيع الإنفاق وحده، وإنما يمتد إلى عدالة توزيعه، فالمدن الجديدة تستحوذ على ٣٠٪ من الإنفاق العام بينما لا يوجد فيها سوى ٢٪ من عدد السكان، بينما ينفق على ٩٨٪ من السكان فى بقية مصر ٢٩٪،وينفق ٤١٪ على المشروعات الإقليمية التى تمر عبر محافظات متعددة. ويمتد الخلل، وفقا للتقرير، إلى عدالة التوزيع بين الأقاليم المصرية المختلفة (القاهرة والأسكندرية والدلتا والصعيد والمحافظات الحدودية)، فهذه الأخيرة تحصل على الإنفاق الأعلى وهى تضم محافظتى سيناء الشمالية والجنوبية والبحر الأحمر والوادى الجديد ومطروح، وبعدها محافظات قناة السويس، ثم القاهرة، فالأسكندرية، فالصعيد، وأخيرا الدلتا؛ وفى العموم فى الاتجاه العكسى لعدد السكان. ولكن ما يوصف بالخلل هنا ربما يعبر عن إستراتيجية قومية مقصودة، الهدف منها تصحيح التوزيع السكانى للبلاد. والذى يعبر عن خلل بنائى وهيكلى فى المنظومة الاقتصادية والاجتماعية المصرية، والتوزيع السكانى المترتب عليهما، يستوجب إستراتيجيات جديدة للتعامل معه. وفى الظن أن ذات النوعيات من الخلل حادثة فى أنشطة أخرى اقتصادية واجتماعية تحاول من خلالها الدولة أن ينتقل السكان من النهر المحدود إلى البحر العميق، ومن الوادى الضيق إلى الصحراء الفسيحة. وهنا تحديدا يكون السؤال عن أى نوع من المحافظين يناسب هذه الإستراتيجية؟ فمحافظ المناطق الحدودية، ومنطقة قناة السويس حيث الخفة السكانية واضحة، لابد وأن يكون له من الصفات التى تعين على التنمية الكثيفة، العمرانية وغير العمرانية.

أما القاهرة والإسكندرية فكلتاهما حالة خاصة باعتبارهما مدنا تاريخية عظيمة، وتحتاج لمحافظين يستطيعون استثمار هذه الحقيقة من ناحية، والتعامل الحكيم مع نتائج الانتشار العمرانى من ناحية أخري. فالقاهرة عليها التكيف ليس فقط مع المدن الجديدة، وإنما التكيف مع إنشاء العاصمة الإدارية التى سوف تؤدى إلى تفريغ العاصمة من الأبنية الإدارية للوزارات والهيئات العامة. ومحافظ الإسكندرية عليه أيضا التكيف مع مدن جديدة، ولكن أيضا كيفية المنافسة، والتكامل مع مدينة العلمين المليونية الجارى إنشاؤها.

واضح من كل ما سبق أنه نتيجة التطورات الجارية فى البلاد فإن المحافظات، سوف تتطلب نوعية مختلفة من المحافظين تكون أول الشروط فيهم المعرفة بالمحافظة ذاتها. وأذكر أن مركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية أصدر سلسلة من الكتيبات عن المحافظات المصرية كانت فى العادة المطلب الأول للمحافظين فى كل حركة محافظين يجرى تعيينها. المعرفة بالمحافظة ضرورة وإذا كان ذلك يفضى منطقيا إلى أن يكون المحافظ من أبناء المحافظة، وربما أيضا ضرورة إنتخابه؛ ولكن ظروفا أمنية أو غيرها لا تجعل ذلك ممكنا فى هذه المرحلة، فنجعل هذه المسألة مطبقة فى المراكز والقرى والتنظيمات الإدارية الفرعية، فربما يكون الإنتخاب هنا نوعا من التدريب. ولكن المسألة الأساسية سوف تظل أن يكون المحافظ على علم كامل بالتنمية البشرية وفروعها المختلفة، ومكانة محافظته فيها على المستوى القومي، ومكانة مصر كلها على مستوى العالم. وفى هذه الحالة فإن مهمة المحافظ قد تكون مختلفة فى محافظة متقدمة مثل بور سعيد والدقهلية حيث المؤشر مرتفع، عنها فى الشرقية أو البحيرة أو أسيوط حيث مؤشر التنمية البشرية منخفض. المسألة فى النهاية أن مصر سوف تحتاج محافظين من نوعيات خاصة، لديهم شمول فى الرؤية والمعرفة، وقبل ذلك وبعده قدرات إدارية وسياسية كبيرة تختلف من محافظة إلى أخري، ومن إقليم لآخر.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف