الأهرام
احمد عبد المعطى حجازى
الإسلام الفرنسى.. وفرنسا العربية!
إذا كان من واجبنا أن نعترف بأن الصورة التى يقدم بها المسلمون أنفسهم فى أوروبا هذه الأيام صورة سلبية تتمثل فى إيثارهم للعزلة وعدم الاندماج وتشبثهم بما حملوه معهم من عادات وتقاليد موروثة من عصور التخلف والظلام ينسبونها للإسلام، ويرفضون على أساسها حضارة العصر، ويتخذون منها مواقف تستفز الأوروبيين، وتوقظ فيهم النزعات العنصرية الكريهة، وتفسح المجال للعنف المتبادل،
إذا كان من واجبنا أن نعترف بأن هذه الصورة السلبية هى الصورة الرائجة للإسلام والمسلمين فى أوروبا هذه الأيام، فمن الواجب أيضا ألا نقف عندها، وأن نتحدث عن صورة إيجابية للإسلام تميز بينه وبين من يسيئون فهمه من المسلمين وغير المسلمين، وتكشف عن جوهره الإنسانى واعترافه بالآخرين، واستعداده الدائم للحوار معهم، والاستفادة من تجاربهم. وقد بدأت هذه الصورة الإيجابية تعلن عن نفسها، وتجتهد لتظهر وتجد فى الأوساط الإسلامية والأوروبية أنصارا يبشرون بها، ويتحدثون عن إسلام أوروبى ينفتح فيه المسلمون فى أوروبا على حضارة العصر، وتنفتح فيه هذه الحضارة على الإسلام.

والحقيقة التى يجب أن نذكر بها أن الإسلام الأوروبى ليس بدعة جديدة، وإنما هو تراث عريق عرفناه وعرفه الأوروبيون فى حضارة الأندلس التى عاشت ثمانية قرون، اتصل فيها الشرق بالغرب، والدين بالفلسفة، والإسلام بالمسيحية و اليهودية وهذا ما عبر عنه ابن رشد فى فلسفته التى صالح فيها بين العقل والنقل، وما عبر عنه أيضا محيى الدين ابن عربى فى تصوفه الذى اتحد فيه الوجود، وأصبح بمختلف صوره وتجلياته تجسيدا لحقيقة واحدة، كما نجد فى قصيدته التى يقول فيها:

لقد صار قلبى قابلا كل صورة

فمرعى لغزلان، ودير لرهبان

وبيت لأوثان، وكعبة طائف

وألواح توراة، ومصحف قرآن

أدين بدين الحب أنى توجهت

ركائبه، فالحب دينى وإيمانى!

فى هذه الأبيات التى اتسع فيها قلب ابن عربى للوجود بكل ما فيه صورة للإسلام الأوروبي، كما تحقق فى حضارة الأندلس. وأنا أتذكر هنا آخر درس ألقاه المستعرب الفرنسى الأستاذ جاك بيرك، وختم به عمله فى الكوليج دو فرانس، وعبر فيه عن روح الإسلام كما استخلصها من دراسته له. وقد وجد بيرك فى هذا الدرس أن إنسانية الإسلام تجسدت فى التجربة الأندلسية التى اجتمعت فيها الديانات والثقافات والأجناس واللغات فى صعيد واحد كان نموذجا فريدا للمدينة الفاضلة التى يستطيع البشر أن يبنوها إذا اعترفوا بأن الحقيقة هى غايتهم جميعا، وبأنها نسبية يأخذ منها كل واحد منهم بنصيب ويسلك إليها الطريق الذى يختاره، وأن اختلافهم رحمة، وتعددهم غنى إذا أحلوا الوفاق محل الشقاق، وهذا ما شرحه بيرك فى درسه الذى سماه «أندلسات» وجعله نبوءة أو حلما بعالم جديد فاضل. الإسلام الأوروبى إذن ليس بدعة جديدة، كما قلت فى هذا الحديث وفيما سبقه، وإنما هو أندلس جديدة يتعلم فيها المسلمون من الأوروبيين كما تعلم الأوروبيون فى الماضى من المسلمين، أو حلقة جديدة من حلقات الحوار الدائر منذ بداية التاريخ بين الحضارات الإنسانية. بعضهم يرى هذا الحوار صداما عنيفا بين عقائد مختلفة لا يوجد بينها أساس مشترك كما تزعم الجماعات والأحزاب العنصرية فى الغرب، ومعها المنظمات الإرهابية عندنا، ونحن نعتقد أن الحضارات الإنسانية كلها ليست إلا نضالا مشتركا لتحقيق الأمن والحرية والعدالة. وكما نسعى منذ قرنين لتطبيع علاقتنا بالحضارة الغربية الحديثة يسعى الغربيون الآن لتطبيع علاقتهم بالإسلام. منذ بضعة عشر عاما كان الوجود الإسلامى فى فرنسا قد فرض نفسه على الجميع، فالمسلمون فى فرنسا يعدون بالملايين، ومنهم عدد كبير يحمل الجنسية الفرنسية، ومنهم عدد كبير لايزال يبحث لنفسه عن مكان. ومن الطبيعى أن يواجه هؤلاء وهؤلاء أسئلة صعبة، ومشكلات مختلفة تتعلق بالإقامة والعمل، والحاجة للاندماج فى المجتمع الفرنسي، والخوف من الذوبان فيه، وفى هذا الوضع يشعر المسلمون بالقلق، ويتعرضون للضغوط والإغراءات التى تأتيهم من الداخل والخارج، ويحتاجون لمؤسسة ترعاهم وتساعدهم فى حل مشكلاتهم، وفى تنظيم علاقتهم بأنفسهم وببلادهم الأصلية وبفرنسا، وهذا ما تحقق فى المجلس الفرنسى للمسلمين الذى أنشأه الرئيس الفرنسى السابق نيكولا ساركوزى قبل ثلاثة عشر عاما عندما كان وزيرا للداخلية لتنظيم علاقة المهاجرين المسلمين بفرنسا على نحو يضمن لهم حقوقهم، ويحفظ لهم شخصيتهم، لكن فى إطار من احترام المبادئ والقوانين الفرنسية المستمدة من العلمانية والديمقراطية وحقوق الإنسان.

ويبدو أن الطابع الإدارى الرسمى غلب على المجلس الفرنسى للمسلمين، فظهرت الحاجة لمؤسسة أخرى تهتم بالثقافة العربية الإسلامية، وهذا ما انتبه له الرئيس الفرنسى الحالى فرانسوا هولاند الذى كلف السياسى الاشتراكى بيير شوفنمان بتشكيل مجلس آخر ينشط فى هذا المجال، ويتألف من مثقفين ينتمون لأصول عربية وفرنسية. وقد قرأنا أخيرا خبرا منقولا عن صحيفة جزائرية جاء فيه أن وزيرة التربية فى الحكومة الفرنسية الحالية نجاة بلقاسم (المغربية الأصل) نجحت فى أن تجعل اللغة العربية مادة إجبارية فى المقررات الدراسية بداية من هذا العام الدراسى الجديد، وقد علقت على هذا الخبر الكاتبة الجزائرية حدة عزام التى نظرت للعربية فى فرنسا نظرتها للفرنسية فى الجزائر، فهما معا تمثيل للحوار الذى لا يصح إذا كان من طرف واحد، وإنما يجب أن يشارك فيه الطرفان، وهذا لن يتحقق بقدر من التكافؤ إلا إذا تأهلت له اللغة العربية بثقافة عقلانية تمكنها من أن تأخذ من الفرنسية وتعطيها.

والحديث يطول حول الإسلام الأوروبي، وخاصة حول الإسلام الفرنسى الذى أصبح واقعا مسلما به كما نرى فى كتاب صدر منذ ثلاث سنوات بهذا العنوان الذى يفصح عن مضمونه La France arabo-orientale (فرنسا العربية ـ الشرقية)، هذا الكتاب الذى شارك فى تأليفه أربعة من المؤرخين الفرنسيين، بينهم سيدة من أصول عربية، وصدر فى دار La Decouverte (الاكتشاف)، هذا الكتاب يدور حول الأحداث والتجارب العنيفة والهادئة، والعلاقات السياسية والثقافية والاقتصادية التى جمعت بين فرنسا والعرب ن منذ ظهر الإسلام فى القرن السابع الميلادى إلى اليوم، هذا التاريخ المشترك الحافل أسهم فى تشكيل وعى الفرنسيين بأنفسهم حتى صار باستطاعة هؤلاء المؤرخين أن يتحدثوا عن فرنسا العربية الشرقية.فهل نستطيع نحن المصريين بالمقابل أن نعتبر الثقافة الفرنسية التى أسهمت فى تشكيل وعينا بأنفسنا خلال القرنين الأخيرين عنصرا من عناصر شخصيتنا الوطنية؟ نعم.. وأظن أن طه حسين سبق لإعلان هذه الحقيقة حين تحدث فى كتابه «مستقبل الثقافة فى مصر» عن ثقافة البحر المتوسط، واعتبر العقل المصرى عقلا غربيا.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف