محمد صلاح البدرى
هل يعرف وزير الصحة عم لمعى؟!
(١) إذا كنت تعرف عم لمعى فأنت من المحظوظين بكل تأكيد.. فمن المؤكد أنه قد جعلك تبتسم يوماً ما.. إن لم ينجح فى جعلك تضحك بصوت عالٍ فى قارعة الطريق كالأطفال مما يقصه عليك من قصص مضحكة بخفة دمه المصرية الصميمة.
أما إذا لم تكن قد عرفته قبل هذا اليوم فقد فاتك الكثير من صفاء القلب وحضور الذهن الذى يجعلك تندهش من توافرهما بغزارة فى هذا الإنسان البسيط.. صاحب الستين عاماً..!
(٢) عم لمعى موظف على المعاش.. كان يعمل محصلاً فى هيئة السكك الحديدية. إنه من هؤلاء الذين كانوا يعملون لأيام خارج منازلهم ساهرين بين عربات القطارات.. ثم يعودون إلى بيوتهم وقد أنهكهم السفر.. ليناموا أياماً لا يعرفون عددها.. ويستيقظوا فقط.. ليكرروا الأمر ثانية! لم يحصل عم لمعى على إجازة طويلة فى حياته.. بل وربما لم يحصل على إجازة فى الأعياد أبداً.. لقد كان يحب عمله الذى يسمح له بالتعرف كل يوم على وجوه جديدة.. وشخصيات من كل الأنواع.
(٣) إنها معرفة القطار الساحرة.. التى تتيح لك أن تبوح بكل ما تملك من أسرار لمن تقابله.. ربما أكثر بكثير مما تُسره لأقرب أصدقائك.. لأنك تعرف أنك ربما لن ترى من تحكى له مرة أخرى.. ولأنك تملك أن تخفى ما تريد إخفاءه من شخصيتك.. ولذا فأسرارك لرفيق القطار دوماً فى صندوق مغلق.
لقد جمع عم لمعى من أسفاره فى القطارات المختلفة خبرات كثيرة.. وقصصاً أكثر.. معظمها مسلٍّ ويبعث على الضحك.. كما يملك هو ملكة خاصة تجعله يتمكن من سرد تلك القصص بأسلوب شيق..! لقد بلغ عم لمعى سن المعاش منذ أعوام قليلة ولكنه لا يطيق الجلوس بالمنزل.. لذا فهو يقضى يومه متسكعاً فى الشوارع الصغيرة فى بلدته الريفية ليستوقف كل من يعرفه ويقص عليه قصصه الكثيرة المضحكة..!
لقد كان عم لمعى مبهجاً.. بل إنه بهجة تمشى على قدمين!
(٤) وعم لمعى مريض سكر مزمن.. أصابه المرض منذ ثلاثين عاماً.. وهو يعرف جيداً كيف يتعامل معه.. يعرف كيف يضبط جرعة الأنسولين لتوازى ما التهمه من طعام فى كل وجبة. والمرضى من هذا النوع يعانون دوماً من ثقة مفرطة فى أنفسهم تجعلهم يقعون فى مشاكل كثيرة.. لذا فقد عانى عم لمعى من أكثر من غيبوبة سكر حادة.. واحتاج الأمر نقله للمستشفى أكثر من مرة.. ولكن هذا لم يردعه أبداً.. لأن زجاجة محلول «جلوكوز» كانت كافية فى كل مرة لإنقاذه فى دقائق معدودة.
(٥) الأمر يتكرر ثانية.. لقد حقن عم لمعى نفسه بجرعة زائدة من الأنسولين بعد وجبة «ظن أنها دسمة».. مما أدخله فى غيبوبة نقص للسكر.. واستدعى الأمر نقله للمستشفى العام ببلدته الصغيرة!
المشكلة هذه المرة أن المستشفى لا يوجد به محلول «الجلوكوز» المنقذ، بل لا يوجد به أى نوع من المحاليل.. لقد طلب الطبيب من أهله بإشفاق أن يشتروا له المحلول سريعاً من أى صيدلية مجاورة.. فخرج أهله يبحثون فى الصيدليات.. ولكن يبدو أن الأمر لم يكن سهلاً..!
لم يجد أحد من أهله ذلك المحلول اللعين.. لقد خرجوا للبحث عنه بثقة فى البداية لم تلبث أن تلاشت تدريجياً وحل محلها القلق والوقت يمضى بهم دون جدوى.. لقد كانوا يعرفون أن الوقت ليس فى صالحهم أبداً. زمن يقارب الساعتين قد مر حتى عثر أحد إخوته على زجاجة محلول فى صيدلية بعيدة.. اشتراها بثمن يفوق ثمنها أربع مرات.. ولكنه هرع بها إلى المستشفى لينقذ أخاه وهو يدعو الله أن يسعفه الوقت.. ولكن القدر رفض أن يمهله هذه المرة!
لقد مات عم لمعى قبل وصول المحلول.. مات أمام طبيب الطوارئ الذى لم يملك له شيئاً سوى صبّ اللعنات على عجز الإمكانيات.. مات بسبب عدم وجود زجاجة من الماء المذاب فيه بعض السكر!.. زجاجة كانت تكفى لإنقاذه!!
لقد اختفت البهجة التى كان يوزعها فى شوارع بلدته.. اختفى ذلك الضاحك السمين الذى يستوقفك ليقص عليك قصصه المضحكة.. اختفى وظل السؤال للسيد وزير الصحة المسئول عن أزمة المحاليل التى تسبب فيها استمرار غلق مصنع بالكامل كان يغطى أكثر من نصف احتياجات السوق بلا مبرر.. هل يعرف سيادته كم عم لمعى قد مات بسبب تباطئه فى إعادة تشغيل المصنع؟.. هل يعرف عم لمعى؟! هل كان يعرف عم لمعى؟!