أصبح واضحاً أن هناك بعض الأنظمة بالمنطقة لا تستطيع الاستمرار فى مواقعها دون أزمات خارجية أو داخلية، أو هما معاً، الترويج لعدو طامع بالخارج، أو أعداء الوطن بالداخل، حتى يمكن استغلال ذلك الخطر المزعوم فى دعوة الشعب إلى التوحد والالتفاف حول النظام، من خلال إعلام وشعارات عفا عليها الزمن، لم يعد ممكناً استمرارها طويلاً، ذلك أن أحداً لا يستطيع خداع الناس كل الوقت، ما بالنا إذا كانت هذه الأزمة المفتعلة بين عاصمة وأخرى دينية أو طائفية، أى تتعلق بالعقيدة، وهو ما يتطلب تغذية التطرف والتشدد على الجانبين، أما إذا كانت داخلية، فإن ذلك أيضاً يستدعى صناعة أعمال العنف والتوتر بمختلف أشكالها.
هناك العديد من الأنظمة فى المنطقة الآن تشعر بالقلق، العمر الافتراضى انتهى، أزمات الداخل أصبحت مستعصية، ربما كانت كل المواجهات الطائفية فى المنطقة، بلا استثناء، تنطلق من هذا الشعور بدنو الأجل السلطوى، أو نهاية الأجل القيادى، عائلات بأكملها يمكن أن تذهب إلى مذبلة التاريخ، أخرى يمكن أن تقضى ما تبقى من أعمارها بين القضبان، أنظمة كاملة يمكن محاكمتها شعبياً، بالتأكيد الأمر يستحق المغامرة والمقامرة معاً.
كان يمكن لهذه العائلات أو تلك الأنظمة التفكير بطرق مختلفة، إعادة حساباتها على أساس من القانون والعدل وحقوق الإنسان، إلا أنه بدا واضحاً الانطلاق من قاعدة (ختم الله على قلوبهم)، بدا واضحا أنهم يدركون أكثر من غيرهم أن الحساب ثقيل إلى الحد الذى لا يجوز معه مراجعة النفس، لذا اتجهت بوصلة التفكير إلى ما هو أسوأ، اتجهت إلى الأفكار البالية التى كان يمكن أن تصلح فى غياب وسائل التواصل الاجتماعى، أو غياب تكنولوجيا التواصل ككل.
فى الماضى، كان يمكن التفاهم بقليل من المال مع زعماء القبائل، كان يمكن إغراؤهم بالتزاوج وتبادل الأنساب، فى مجتمعات أكثر تقدماً كان يمكن التفاهم مع قادة الأحزاب، مع مافيا السياسة والصناعة والتجارة، وحتى مافيا الجريمة، الآن لم تعد السيطرة داخل المنزل لرب المنزل، ولا فى العمل لرب العمل، ولا فى الحزب لرئيس الحزب، حتى علماء الدين لم يعد بإمكانهم إخضاع الناس بالحديث عن الحلال والحرام، هكذا أرادت الأنظمة، وكان لها ما أرادت، ها هى تتجرع من نفس الكأس.
أزمات المنطقة تبدو فى ظاهرها صراع نفوذ وسيطرة، فى بعضها الآخر تبدو كأنها دفاع عن الدين أو حتى المذهب، فى بعضها الثالث تبدو كأنها خلافات سياسية، الأمر ليس كذلك أبداً، هذا ما أكدته طبيعة الصراع فى كل المحاور تقريباً، نحن أمام أنظمة هشة، عفا عليها الزمن، لم تعد تصلح للتجاوب مع متطلبات العصر، الناس فى زماننا أصبحوا يرفضون الفساد، ليس بالقلب الذى هو أضعف الإيمان، وإنما امتد الأمر إلى اللسان واليد، الناس فى زماننا أصبحوا يرفضون الذل والعبودية، أصبحوا يرفضون الخضوع والخنوع، أصبحوا يرفضون حكم الفرد كما حكم العائلة سواءً بسواء.
هذا ما لم يستطع الأفراد ولا والعائلات استساغته، ديكتاتورية الفرد مازالت تخيم على عقول البعض من الذين اعتادوا الأمر والنهى، والإمساك بزمام السلطة، ظناً منهم أن ذلك حق مكتسب، زهو المُلك مازال يداعب العائلات التى لا تستطيع تخيُّل الحياة بدون القصور والسيطرة على الموارد، وإلقاء الفتات للشعوب، لا هؤلاء ولا أولئك قدّروا للأمور قدرها، لم يستطيعوا استيعاب المتغيرات، الداخلية منها والخارجية، رغم أنهم عاصروا الكثير من الأحداث المشابهة، التى أطاحت بمن كانوا أشد قوة وبأساً.
ما أود التأكيد عليه فى هذا الإطار هو أن الشعوب لا يجب بأى حال أن تسدد الثمن، أو أن تكون ضحيةً طوال الوقت لصلف هؤلاء، أو حماقة أولئك، لا يجب أبداً أن تقبل الشعوب باستخدامها فى تنفيذ مآرب ومخططات لا شأن لهم بها، لا يعنينا بأى حال أن يكون هذا سُنيا، أو ذاك شيعيا، أو حتى شيوعيا، لا يعنينا توجهه السياسى بأى حال، بل لا يعنينا أبداً أن يكون من ديانة مختلفة، (ولو شاء الله لجعل الناس أُمَّة واحدة ولا يزالون مختلفين)، الاختلاف سُنة الحياة، وهذه مشيئة الله، الذى لا راد لقضائه.
كان من المهم أن يكون ذلك هو دور علماء الدين، كما الأحزاب السياسية، كما النخبة المثقفة بصفة عامة، كان من المهم توعية الناس بالأخطار المحيطة حولهم، بأن هذه الحروب المحيطة بهم ليس هدفها أبداً مصلحة المواطن، أو دينه، أو عقيدته، أو حتى مستقبله وأمنه وأمانه، هى دماء تسيل طوال الوقت من أجل استمرار ذلك الحاكم الفرد، أو تلك العائلة غير المقدسة، هى أرواح تُزهق طوال الوقت لحساب تُجار الحروب، وتجار السلاح، وتجار الرقيق، الوطن منها براء، كما الدين أيضاً.
أعتقد أن الفرصة مازالت سانحة أمام الحاكم الفرد للتصالح مع الداخل، والإيمان بالعمل الجماعى، وسؤال أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون، كما هى أيضاً سانحة أمام تلك العائلات للتصالح مع أنفسهم، والاعتراف بوجود آخرين لهم الحق فى الحياة، كما الحق فى المواطنة الحقيقية، وعدالة تقسيم الثروة، وفى هذه وتلك يمكن أن يعم السلام من جديد، دون الحاجة إلى تدخل الآخرين أو وصايتهم، حتى يمكن أن ينطبق علينا قول الله تعالى (كنتم خير أُمَّة أُخرجت للناس)، وذلك بعد أن تداعت علينا الأَكلة طويلاً وكثيراً، بفعل ما قدمته أيدينا.