قبل عدة أشهر قدم برنامج (أسعد الله مساءكم) الذي يقدمه أكرم حسني في شخصية سيد أبو حفيظة حلقة كوميدية سخر فيها من التليفزيون المصري الرسمي، وماسبيرو، وطريقة إدارة الأمور هناك، هاجت الدنيا علي الرجل، وقناته، وطالبوه بالاعتذار، وذهب البعض لمنع البرنامج، في حلقة من مسلسل صراع القنوات المصرية الخاصة مع قناة إم بي سي مصر السعودية آنذاك، وتم تصعيد الموضوع لكيف يقال ذلك ( يقصدون سلبيات حقيقية وموجودة) عن التليفزيون المصري العظيم، وما لم يدركه أحد وقتها أن أولي خطوات حل المشكلة الاعتراف بأنها موجودة أولاً، ولذلك لم يحدث أي شئ. دخلت إحدي الشركات علي الخط محاولة تقديم برنامج توك شو ينافس القنوات في ماسبيرو، وفشل البرنامج بإجماع المجموعة الشمسية بعد أن حمل اسم (أنا مصر)، وهو ما كانت مصر يمكن أن ترد عليه لو أنها تتكلم : انت كداب.
ثم جرت مياه في النهر، وتم تغيير رئيس اتحاد الإذاعة والتليفزيون بعد فترة، وتشكيل مجلس أمناء جديد كان من ضمنه، وياللعجب، رئيس القناة التي هاجمها الإعلام باعتبارها تهاجم الإعلام المصري وتسعي لتشويهه وتغييبه وإنهاء تاريخه !!
لكن الأمر لم يتغير، حتي مع تواتر الأنباء عن قرب تعيين وزير إعلام، أو مجلس وطني للإعلام، ظل الأمر مستفزاً، وناضل من أراد أن يناضل علي الشاشات، وامتلأت الصحف بمناشدات وانتقادات، وظل الأمر بارداً قاسياً ثقيل الوطأة علي مكان كان مفخرة العالم العربي.
مبني ماسبيرو يا سادة كان أحد أهم وسائل القوة الناعمة المصرية التي شكلت وجدان العالم العربي، وبه من الكفاءات من يديرون الآن جميع القنوات الخاصة، بل وعمل فيه جميع الفنيين وأصحاب (الشغلانة) الأصليين، وقد ظل يتراجع بشدة، في ظل فساد حقيقي في الإدارة، أو دولة أولت ظهرها لجهازها الإعلامي الرسمي لأنه لم يعد مفيداً لها، وبدلاً من تقويمه ودفعه للأمام، تم دفعه للخسائر الشاملة..
تقول الأسطورة إن ماسبيرو يعمل فيه أكثر من 42 ألف موظف، الرقم الأكبر فيهم مهندسون إذاعيون، وأغلبهم لا يحضر للمبني إلا في المناسبات، ويتقاضون أجورهم بينما يعملون في قنوات أخري، وتقول الأسطورة في الوقت ذاته، شئت حضرتك أم أبيت، أنا أو إنت، أن رجلاً مثل صفوت الشريف ومن بعده أنس الفقي، علي ما بنا، أو بأغلبنا، من خلاف سياسي حقيقي ومشكلات مع توجهاتهما وأسلوبهما في إدارة الملف أيام إعلام الاتجاه الواحد الخادم لنظام مبارك، كانا يديران المبني بكفاءة حقيقية، ويشهد لهما الكثيرون، لكن الواقع أكد أنه بعد الثورة، مات ماسبيرو. تولاه من يسير الأمور وليس أصحاب الرؤي، ونزعت من الجميع صلاحياتهم للإصلاح، وتاه الملف بين الجميع، حتي في عهد الإخوان، كان مندوب مكتب الإرشاد يجلس في ماسبيرو ليدير الإذاعة والتليفزيون بينما المهنة تواصل انهيارها، وإعلام الدولة يكفنونه ويدفنونه..
لذلك كنت مندهشاً من الهجوم الشديد الذي شنه البعض علي ماسبيرو والتليفزيون المصري، لمجرد أنه أذاع حواراً قديماً للرئيس بدلاً من حواره الجديد، فتلك لم تكن المرة الأولي، ولن تكون الأخيرة بالمناسبة، لكن في نفس الوقت : هل هذا فقط هو ما لفت نظركم في ماسبيرو ؟؟ هل هذا هو فقط هو سبب انتقادكم له ؟؟ هل تذكرتم الآن فقط أنه جهاز (بايظ) ويحتاج لإعادة هيكلة ؟؟
طيب، هل تعرفون أصلاً كواليس هذا المبني ؟؟ هل دخلتم لتشاهدوا ما يحدث فيه ؟؟ هل سألت الدولة نفسها ماذا قدمت لماسبيرو خلال العامين الأخيرين مثلاً ؟؟ هل حاولت حل أي مشكلة ؟؟ هل حاولت تطوير إمكانات المبني وتأهيل العاملين به ؟؟ هل فكر أحد في الاستغناء عن المقصرين وتفعيل القانون بدلاً من الإطاحة بالقيادات كمسكن موضعي لا يعالج أي شئ ؟؟ هل هناك رؤية أصلاً لجهاز قادر علي الوصول للبسطاء، فإذا به يتراجع، وإذا بالقنوات الخاصة هي الأخري تلجأ للترفيه وتغيب السياسة، فيصبح ملجأ المواطن البسيط قنوات الإخوان أو الجزيرة ؟؟
الحقيقة أن الدولة لا تعرف كيف تدير هذا الملف، الاقتراحات والدراسات في أدراج الدولة لم يجرؤ رئيس وزراء علي إخراجها لدراستها أو العمل بها، بل يبقي الملف مؤجلاً وفق رغبة أجهزة معينة في الدولة، أو وفق عجز الدولة نفسها عن حل مشكلات الملف.
الحقيقة التي لا يريد أحد مواجهتها، أن الدولة فقدت بوصلتها في التعامل مع ماسبيرو، لدرجة أنها حين قررت أن تدعم تجربة إعلامية، أدركت أن ماسبيرو (مافيهوش أمل) فدعمت قنوات خاصة جديدة. الحقيقة أن الدولة لم تفعل أصلاً ميثاق الشرف الإعلامي الذي هو أحد أبرز بنود خارطة 3 يوليو الشهيرة، ولم تتقدم خطوة فاعلة في مشروع قانون الإعلام الموحد، وحين أرادت أن تجدد صنعت برنامجاً فاشلاً بإجماع المجرة وأطلقت عليه اسم (أنا مصر)، ولو نطقت مصر لردت : انت كداب يالا علي فكرة !!
الدولة لا تريد أن تصلح ماسبيرو، وليس ذلك علي أولوياتها، ولذلك، صفاء حجازي لن تفعل شيئاً لأنها مكبلة، الدولة لن تفعل شيئاً لأنها ضخت دماءها في قنوات خاصة، الهجمة علي التليفزيون المصري تتجاهل دور الدولة فيما وصل إليه من أزمة، بعض العاملين هناك وصل بهم درجة الغرور لدرجة أنهم لا يتقبلون نقداً صادقاً ولا يقبلون بالتغيير، فأصبحت النتيجة التي لا جدال فيها أن ابو حفيظة كان عنده حق..
أنقذوا إعلام الدولة، قبل أن تستيقظوا متأخرين علي حقيقة مرة مفادها أن مصر بلا إعلام رسمي يعبر عن وجهة نظر الدولة والناس، وليس عن وجهة نظر النظام السياسي.