يسرى الجندى
الكواكبي ودليله الاستبداد في قهر العباد!
في التاريخ العثماني يلقب (السلطان سليمان) بسليمان القانوني بمعني أنه من دعم سيادة القانون ومنع الخروج علي ما استنه هو أو أسلافه امتناعاً صارماً ينسحب علي الجميع كما تؤكد كتب التاريخ عثمانية الهوي.. أما سليمان الحقيقي كما قدمه مسلسل (حريم السلطان) وفقاً لقراءة صحيحة فقد ظهر لنا وما سنه من قوانين أمرً بالغ الهشاشة ينصح بالكذب.. إذ نراه هو وقضاته صارمين إلي حد القسوة مع العامة وكل ما هو تافه من الأمور في السوق أو دار القضاء أما القانون الهادف لتحقيق العدالة وانتفاء الظلم فلا أثر له.. وخاصة حين نراه يطيح بعدد كبير من الرؤوس وفقا لهوي أو شكوك ودون قرينة. فنراه يقتل غدراً أقرب الناس إليه (وزيره إبراهيم) صديق عمره وصباه.. ويعترف لولده الأكبر (مصطفي) بأن إبراهيم اقترب من العرش اكثر من اللازم كمن يقترب من بركان يحرقه إن زاد اقترابه وقد هم بقتل ابنه هذا ايضاً حين سأله لماذا قتل إبراهيم.. ثم بدا له معترضاً علي مظالمه وشك في أن ذلك يعني طمعاً في العرش.. وهو قد أطاح برأسي زوجيّ اختيه لشكوك تتعلق بالسيطرة أيضاً.. بخلاف مظالم أخري وبطش اعمي بزعم رفعه سيف العدالة القاطع والشرع.. وكان سنده الديني مشورة (ابو السعود أفندي) رجل الدين وقاضيه الذي يبرر له جرائمه بل يزينها له بتأويلات زائفة تجافي صحيح الدين أما ما يبدو لنا وللآخرين -رعية أو أعداء- من عظمة وحكمة فيتكشف أن وراءها ضعفاً وعماء بصيرة ضعفاً لا يسعفه عقل أو بصيرة حكيم كما يزعمها التاريخ المنحاز.. وأكثر ما تجلي ذلك في عبث امرأة كانت جارية له استطاعت أن تتحكم فيه وفي سلوكه الطائش وتدمر حياة من حوله وتحول قصر الخلافة إلي جحور للأفاعي والمآسي الدامية.
ولنلاحظ أن سليمان القانوني بلغ أعلي ذروة في القوة والبطش وبداية الضعف والأفول للعثمانين قرب وفاته!
والحق أن (عبدالرحمن الكواكبي) يرسم صورة ساخرة كمحصلة للمستبد تكمل لنا مارسمته كاتبة المسلسل حيث يقول (والاستبداد لو كان رجلاً وأراد أن ينتسب لقال »أنا الشر.. وأبي الظلم.. وأمي الاساءة.. وأخي الغدر وأختي المسكنة، وعمي الضر وخالي الذل.. وابني الفقر وبنتي البطالة وعشيرتي الجهالة ووطني الخراب).
- وعليه يفند الكواكبي اكذوبة المستبد العادل (حتي لو كان عادلاً بحق فإنه مياله بحكم ظروف السلطة ومعطياتها إلي الاستبداد والظلم) وينسحب بذلك علي الحكومات إذ يقول (ما من حكومة -تزعم أنها - عادلة تأمن المحاسبة بسبب من اسباب غفلة الأمة أو إغفالها لها إلا وتسارع إلي التلبس بصفة الاستبداد) وإن كان ذلك بزي غير زي المستبد الذي يخدمون إرادته ويكمل: (إن جهالة الأمة والجنود المنظمة إنما يمثلان القوتين المهولتين اللتين تجعلان المستبد يمعن في استبداده دونما حسيب أو رقيب) ويضيف إلي قواه (قوة المال وقوة الالفة علي القسوة - من جانب الرعية - قوة ورجال الدين وقوة أهل الثروات وقوة الانصار من الاجانب)، وهو يرد علي ما يسوقه المستبد ورجاله من تبريرات للاستبداد (يقولون الاستبداد يعلم الطاعة والانقياد والحق أن هذا عن خوف وجبن لا عن إرادة واختيار ويقولون هو يربي النفوس علي احترام الكبير وتوقيره، والحق أن ذلك مع الكراهية والبغض لا عن ميل وحب ويقولون الاستبداد يقلل الفسق والفجور والحق أنه عن فقر وعجز لا عن عفة ودين ويقولون هو يقلل الجرائم والحقيقة هو يخفيها فيقلل تعديدها لا عددها).
ثم هو يشير إلي مؤشر هام بين الأمم الحرة والامم المستبدة وهو استنطاق لغتها من حيث كثرة ألفاظ التعظيم والخضوع - وراجع ما كانوا يصفونه علي السلطان سليمان القانوني من تمجيد وخضوع تجعل منه إلها أو يكاد.. ثم يضاف بجانب لقب (الخليفة) أنه ظل الله وسلطان العالم! وهذه من قاموس أمم الشرق المستعبدة عامة!
- إن رحلة الكواكبي تدور حول مطلب حرية الانسان في مواجهة الاستبداد والمستبدين وأن الهدف مما نسميه الديمقراطية والحرية والعدالة هو خدمة مجموع البشر وسعادتهم وأن يكون المطلوب أيا كانت السلطة هو صالح المجموع »ولابد من تعيين المطلب تعييناً واضحاً موافقاً لرأي الكل أو الرأي الأكثرية» والتفاته إلي رأي الاغلبية يكشف عن وعي مبكر بركن مهما من أركان الديمقراطية وهو حين يقول (الانسان الحر مالك لنفسه تماماً ومملوك لقومه تماما) هو أيضاً ربط لحرية الفرد بحرية الجماعة حقوقاً وواجبات - وهو في هذا لا يكتفي بالبعد السياسي، بل يلتفت باهتمام إلي (الاقتصاد) باعتباره عصبا مهما في حياة الفرد والجماعة ومن أهم مداخل المستبد في الحكم.. وهو يبدي ملاحظة هامة بقدس العمل والعدل إذ يقول (إن رجال السياسة والأديان ومن يلتحق بهم لا يتجاوزون الواحد في المائة يتمتعون بنصف ما يتوافر من دم البشر ينفقونه في الرفاهية ... يعيش أحدهم بمثل ما يعيش به العشرات أو المئات أو الآلاف من الصناع والزراع!) ويتجلي هذا في النظم الاستبدادية أو الرأسمالية ونشأة الظلم الاجتماعي هنا تتجلي حقيقة نظرته لما سماه بالشراكة العامة في ثروات المجتمع وقواه الطبيعية وهو يقول بوضوح يتصادم مع جهالة الاستبداد أو توجهه (البشرية هي العلم والصناعة وأن القضاء والقدر هما السعي والعمل.. والإنسان لا يكون انساناً ما لم تكن له صنعة مفيدة تكفي معاشه لا تنقص فتذله ولا تزيد عليه فتطغيه).
هذه النزعة إلي العدالة الاجتماعية هي ضد طبائع الاستبداد التي تأبي المساواة والعدالة أو أن تكون الملكية لغيرها أو أي شراكة معها.. بعكس الكواكبي الذي يري أن الثروة العمومية ملك للجميع لا يملكها مستبد ولا يستمتع بها جهاز الدولة ويسأل: (هل للحكومة صفة المالكية؟ أم صفة الأمانة والنظارة علي الاملاك العمومية مثل الاراضي والمعادن والانهار والسواحل والقلاع... إلخ.
- وفي مدخل حديثه عن خلط السياسة بالدين ومتاجرة المستبد بالدين هو ومن يمالئونه من رجال الدين نراه يعتب أولاً علي عامة الناس في مساعدتهم علي ذلك فيقول: (لبسطاء الاسلام مسليات أظنها خاصة بهم يعطفون يعلقون مصائبهم عليها نحو قولهم »الدنيا سجن المؤمن» ، »المؤمن مصاب»، »إذا أحب الله عبداً ابتلاه»، »هذا شأن آخر الزمان»، »حسب المرء لقيمات يقمن صلبه.. إلمخ.
كان هذا عتابه علي مثل هذه العقائد الضارة الممكنة للاستبداد من أن يتمادي ورجاله في لعبة الإتجار بالدين للتحكم والتضليل ولذا اتسعت رؤي الكواكبي لتحيط بكل سمات الاستبداد وتعريتها مثل الخلط بين السياسة والدين والمعني الحقيقي للتجديد والعداء له وللمعني المقدس لكلمة لوطن) والتأثير السلبي للعامة في شرعية الاستبداد واستمراره وطرح قضايا مهمة، كالإرادة وعمل المرأة والتعليم والصحافة والتربية في ربط محكم بالمواجهة مع الاستبداد. ولنا عودة مع (الكواكبي) وما فصله في ذلك.