كلما قرأت شئياً عن إنشاء قناة السويس في القرن التاسع عشر. تقطع القلب. ودمعت العين. واعتصرت جوانياتي آلام شديدة. لا أقوي علي تحملها وذكرها.. ذلك أن هذا الشريان الذي دب في أوصال الوطن. جاء بالدم والجوع والعطش.. جاء بالعذاب الشديد تحت نيران الشمس الحارقة والبرد الجارف لكل صحة وعافية في جسد شباب الأمة.
سيق آلاف الشباب تحت ضربات الكرابيج. ولسعات العصي. إلي ذلك المكان الصحراوي الخالي من مظاهر الحياة مكبلاً بالقيود بعضهم البعض بلا رحمة أو شفقة أو أي لمحة إنسانية إلي الحد الذي جعل الإنجليز يكتبون أن ما يحدث في مصر أشد عنفاً وقسوة مما يحدث مع العبيد السود في أمريكا.
كانت الوحشية التي سيطرت علي ديليسبس وشركته ومعه سعيد باشا. وحب المال والمكاسب المنتظرة اشد تغلغلاً في قلوبهم من أي مخاوف من المولي سبحانه وتعالي. بل تواري الخوف من الله تماماً من قلوبهم ومن أعماقهم. وحلت محله المصالح الخاصة. حتي لو تعارضت مع كل القيم والأديان والأعراف الإنسانية مأساة إنسانية دامية ووصمة عار في جين حكام مصر في ذلك الحين وفي جبين الفرنسيين لا يمحوها الزمان.
اعجب لماذا لم يتحدث مفكرونا عن تلك المأساة باستفاضة. ولماذا لم يسجل اصحاب الفنون سواء كان في المسرح أو السينما أو الأدب أو الموسيقي أو الرسم هذه المآسي التي استمرت في مصر لمدة عشر سنوات. يساقون إلي هذا العذاب كل شهرين. ما بين عشرين ألفاً إلي ثلاثين ألف شاب مسكين يعمل تحت سطوة العبودية والذل والهوان مقابل جعل يومي يساوي قرشاً ونصف قرش أو ثلاثة قروش علي الأكثر وسط ظروف بيئية مدمرة لصحة الإنسان ومعنوياته.
كانت أدواتهم في الحفر هي القفف والمقاطف والفئوس. مما جعل العمل شاقاً وطويلاً إلي حد الدمار الجسدي والنفسي.. تخيل أن من بين الأماكن التي حفروها. وقاموا بنقل أتربتها جبلا ارتفاعه يقرب من عشرين متراً يمتد عدة كيلومترات. قاموا بحفره للعمق المطلوب للقناة. ونقل أتربته علي اكتافهم وأذرعهم.
يخطف الشباب من بين أحضان ذويهم. ويساقون كالأنعام أو العبيد إلي مكان العمل في قناة السويس والجوع والعطش. ويعملون بنظام السخرة. يموت من يموت ويمرض من يمرض.. لا ثمن له. ولا اهتمام بأهله.. فقط ينصب اهتمام الرؤساء علي أداء العمل مهما كانت التضحيات.
أعجب أشد العجب أن هذا الشعب المسكين خلال هذه السنوات العشر لم يثر. ولم يعترض. ولم يقاوم. بل ظل مستسلماً. طائعاً. خائفاً. تثور الدول الأ جنبية لما يحدث له. ليس حباً فيه. إنما لحقد انجلترا علي فوز فرنسا بهذا المشروع. ولعدم توريد القطن المصري إلي مصانعها. بسبب نقص العمالة في الأراضي الزراعية.
العجيب أن مثقفينا يبتهجون بذكر الاحتفال الذي أقيم بمناسبة افتتاح قناة السويس علي يد الخديوي إسماعيل. ويتحدثون عنه. ويحتفلون به. ولا يذكرون الضحايا الاشقياء الذين أهينوا لحفرها. ومن ثم كان تأميم القناة سنة 1956 عملاً وطنياً بالدرجة الأولي.
* حدثني والدي ــ رحمه الله ــ أن بعض الناس في المقاهي. قاموا بحمل جهاز الراديو علي رءوسهم عند إذاعة رئيس الدولة آنذاك قرار تأميم قناة السويس ابتهاجاً به.