بسيونى الحلوانى
توريث الوظائف.. إهدار للعدالة وضياع للدولة
سألني أحد الأصدقاء الأعزاء: أنا رجل مكافح وأعمل في مهنة حرة وأكسب رزقي بالحلال وأحرص علي تربية أولادي افضل تربية وأمنية حياتي أن يكونوا في أرقي المواقع في مصر.. فهل يمكن أن يكون ابني وكيل نيابة.. أو ضابط شرطة.. أو صحفياً مثل سيادتك؟.
قلت له: بكل صراحة ودون لف ودوران وخداعك بشعارات فارغة الوظيفة الوحيدة التي قد تكون في متناول ابنك هي العمل صحفياً لو كان يمتلك الموهبة والقدرة علي هذا العمل.. أما اقتحام الميادين الاخري الي تتطلع إليها لأولادك فهو يخضع لاعتبارات كثيرة ومعقدة..عاد الصديق ــ وهو رجل بسيط أعتز بصداقته وأمانته ــ ليسألني: لماذا تظل بعض الوظائف حكراً علي أبناء العاملين فيها؟ وهل بالضرورة أن يكون ابن المستشار وكيل نيابة وابن سيادة اللواء ضابط شرطة وابنك صحفياً؟.
قلت له: لا.. كل شاب وله ميول وقدرات ومواهب تختلف عن قدرات وميول والده وينبغي أن يعمل كل انسان في المجال الذي يناسبه ويعطي فيه وتأهل له؟.
التقط الرجل ــ وهو مشحون بقدر كبير من الغضب ــ هذه الإجابة وقال: لماذا يحرم أولادنا من العمل في هذه المجالات إذا كنا نعيش في بلد يرفع شعار العدالة والنزاهة والشفافية؟ لماذا يجد ابن السفير الطريق ممهداً أمامه ليلتحق بالسلك الدبلوماسي ولا يجد ابني هذه الفرصة مع أنه قد يكون اكثر تفوقاً منه وأكثر ذكاء ويمتلك قدرات ومهارات لا يمتلكها ابن السفير؟ ولماذا يحرص معظم المسئولين في الوظائف المرموقة في الدولة علي "زرع أولادهم في مجالات عملهم مع أنهم قد يكونون "فاشلين" في هذه المواقع ولا يرغبونها أصلا؟ وإلي متي سنظل نورث أولادنا الوظائف والمهن والحرف التي نعمل فيها ونقتل رغباتهم الحقيقية ولا نتركهم يشقون طريقهم بالكفاح والعرق في مجالات عمل يرغبونها وقد يحققون فيها نجاحات كبيرة.
***
بصراحة.. تساؤلات هذا الرجل البسيط لم استطع الرد عليها لأن تدخلات الآباء لزرع أولادهم في مجالات عملهم.. وفي بعض المجالات يزداد الأمر بشاعة خاصة عندما تجد ابن رجل مهم يقتنص حق شاب آخر كافح وعرق وسهر الليالي وبذل كل جهده لكي يحصل علي وظيفة معينة فإذا بها تطير في اللحظات الأخيرة دون أن يعرف كيف طارت وكيف ذهبت لغيره!!.
الأمثلة كثيرة والنماذج متعددة والتجاوزات صارخة وكلها تضاعف من حالات الغضب والسخط بين المواطنين الذين يسمعون من كبار المسئولين في الدولة شعارات رنانة تؤكد الحرص علي العدالة والنزاهة وإعطاء كل ذي حق حقه بصرف النظر عن وظيفة وموقع والده ثم لا يجد أثراً لذلك علي أرض الواقع.
لا أحد يزعم أننا في مصر قد وصلنا إلي ما يطهر أجهزة الدولة من عبث الوساطة والمحسوبية والاخلال بالعدالة والنزاهة. والدولة لا تزال في حاجة إلي تطهير حقيقي من هؤلاء الذين احترفوا اقتناص الوظائف والفرص لأبنائهم وأقاربهم ومن يدفع من الراغبين.
ليس عيباً أن نواجه مشكلاتنا وأزماتنا بمزيد من المصارحة والمكاشفة بعيداً عن الشعارات التي تصيب المواطنين بمزيد الاحباط وتزرع فيهم المزيد من عدم الثقة في الدولة ومؤسساتها..ما الذي يمنع أن يكون ابن رجل بسيط نظيفا وشريفاً ومكافحاً رجل قضاء عادل ونزيه. أو رجل أمن ناجح وكفء في عمله. أو أحد أفراد السلك الدبلوماسي الاكفاء المتميزين؟.
لابد أن نعترف في شجاعة أننا مازلنا في حاجة إلي القواعد التي تعوق كل موظف عام من زرع ابنه ليكون وريثاً له في المكان الذي يعمل فيه حتي ولو كان الإبن متواضع المواهب والقدرات وليس لديه الاستعداد الكافي للعمل في هذا المجال.
لابد أن نعترف في شجاعة أن توريث الوظائف في مصر لا يوجد له مثيل في أي دولة في العالم. وهذه كارثة منتشرة للأسف في كل مواقع العمل ابتداء بأبناء القضاه والدبلوماسيين وأساتذة الجامعة والصحفيين وضباط الشرطة.. وانتهاء بأبناء العمال حيث يري كل إنسان أن من حقه أن يكون ابنه وريثاً له في الوزارة أو المؤسسة التي يعمل بها بصرف النظر عن قدرات الابن ومدي استعداده للقيام بعمل والده..قد يكون "ابن الوز عوام" كما يقول المثل المصري. وقد يكون الابن اكثر موهبة واستعداداً من والده. ومن العدل والانصاف ألا توضع في طريقه عقبات وألا يحرم من عمل تم تأهيله له علمياً ونفسياً.. لكن من الظلم أن يكون كل مؤهل الابن هو وجود والده ونفوذه أو كثرة الحاحه علي رؤسائه أو زملائه لإعطاء فرصة لإبنة..استمرار هذه الظاهرة ضد العدالة الاجتماعية التي نبحث عنها في مصر. فليس من حق موظف في مكان أن يفرض ابنه "غير المؤهل" علي مكان عمله لأنه بالتأكيد سيكون فاشلاً وعبئاً علي مكان العمل وقد يكون ذكري سيئة لوالده.
شباب مصر في حاجة إلي عدالة حقيقية.